
الكنوز الوطنية الحية في اليابان: حماة التراث وإرث لا يقدر بثمن
بونراكو… مسرح الدمى الذي يلامس روح الإنسان في قلب اليابان
ثقافة- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
تناغم أنفاس الفنان مع الشخصية
تضمن برنامج شهر نوفمبر/تشرين الأول من عام 2024 في مسرح بونراكو القومي بأوساكا مسرحية بعنوان ”تشوشينغورا: كنز الأتباع المخلصين“ والتي كُتبت في الأصل كدراما مكونة من 11 فصلا، وتُعتبر واحدة من أروع 3 مسرحيات بونراكو. تروي هذه المسرحية الكلاسيكية قصة مؤثرة عن الولاء والتضحية والشرف، وهي مستوحاة إلى حد ما من حادثة أكو في أوائل القرن الثامن عشر التي شارك فيها ”47 رونين“ انتقموا لمقتل سيدهم.
أدّى مُحرِّك الدمى كيريتاكي كانجورو دور شخصية التابع هايانو كانبي التي تشهد أحداثا مأساوية، حيث غاب عن سيده في اللحظة الحاسمة وعجز عن التدخل. ومنذ ذلك الحين، اعتكف كانبي في منزل زوجته وكان يعتاش على الصيد. تتفاقم محنته عندما يعتقد بطريق الخطأ أنه أطلق النار على والد زوجته في ظلمة الليل، ودفعه اليأس لاختيار الانتحار.
يحرك كانجورو دميته بمهارة لنقل معاناة كانبي للجمهور، ويعمل السرد العاطفي للتايو والمرافقة الموسيقية لآلة الشاميسين على زيادة التأثير العاطفي.
لم يعلم كانبي أن الشخص الذي قتله لم يكن والد زوجته، بل كان اللص الذي قتل والد زوجته، إلا بعد أن طعن نفسه. وبعد أن ظهرت براءته، وقّع بدمه على تعهد انتقام الرونين قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وفي اللحظة التي تُفارق فيها الحياة كانبي، ترتخي الدمية بين يدي كانجورو.
يقول كانجورو ”يجب أن أزامن تنفسي مع الدور الذي تلعبه الدمية. فإذا حبست الشخصيات أنفاسها، أفعل الشيء نفسه. وإذا لهثت، فأنا ألهث أيضا. إذا كان لدينا محارب وامرأة نبيلة فإنهما يتنفسان بطريقتين مختلفتين، وما لم أضبط تنفسي وفقا لذلك، فلن تبدو الدمى على طبيعتها“.
لا يبعث هذا التزامن في الحركات الحياة بالدمية فحسب، بل يُمكنه أيضا إخمادها عند موت الشخصية. ”أنا مولع بتصوير الشخصيات التي تعاني من إصابات حرجة، مثل كانبي. عادة لا تلفظ هذه الشخصيات أنفاسها على الفور، فقد يستغرق الأمر من 15 إلى 20 دقيقة حتى تستسلم في نهاية المطاف. تتكبد هذه الشخصيات جهدا كبيرا في كل كلمة ومع كل حركة، حيث تبدأ أكتافهم بالارتفاع والهبوط عندما تصبح أنفاسهم تدريجيا أكثر عمقا. إن العمل على إتقان هذه التفاصيل الصغيرة أمر مذهل حقا“.
يتم تحريك دمية بونراكو من قبل 3 أشخاص يعملون بتناغم، ويطلق عليهم اسم ”أوموزوكاي (محرك الدمى الرئيسي)“ الذي يتحكم بالرأس واليد اليمنى، و ”هيداريزوكاي“ الذي يتحكم باليد اليسرى، و ”أشيزوكاي“ الذي يتحكم بالقدمين. يمكن التعبير عن المشاعر والحالات النفسية بواقعية مذهلة من خلال التنسيق بمهارة بين الأشخاص الثلاثة. ومجرد إمالة الرأس أو رفع الإصبع كفيل بإحداث انطباع قوي.
كيريتاكي كانجورو يحمل دمية شخصية هايانو كانبي. (© ميزونو هيروشي)
إن حقيقة وجود ثلاثة أشخاص يحركون كل دمية هو ما يجعل فن البونراكو فريدا. نتعاون في كل عرض مع أشخاص مختلفين بمستويات مهارة وخبرة متفاوتة. وعلى الرغم من ذلك نتمكن من تنسيق حركاتنا بتناغم تام لأن أوموزوكاي يرسل إشارات باستمرار إلى محركي الدمى الآخرين أثناء وجوده على المسرح. وهذا الأمر هو الذي يُمكّن من تأدية حركات البونراكو بتميز.
من مساعد إلى محرك دمى محترف
تستغرق مسيرة التطور إلى محرك دمى محترف رحلة شاقة، حيث تحتاج 10 سنوات من التعامل مع الأقدام، و 15 سنة لتحريك اليد اليسرى، وبعد ذلك فقط يمكن له أن يصل إلى مستوى أوموزوكاي. بدأ كانجورو هذه الرحلة عندما كان في الصف السابع.
يستذكر كانجورو بداياته قائلا ”كان والدي محرك دمى، وطلب مني المساعدة ذات يوم بسبب حاجته إلى مساعد. لم أتمكن من إجراء تمرين على العرض، وطُلب مني فقط الإمساك بقدمي الدمية. كان الأمر مرهقا جسديا“.
الجدارة هي الأساس
”لم يكن العدد كافٍ لتحريك الدمى، لذا شعر الجميع بالسعادة عندما ذهبتُ للمساعدة. وبعد فترة، تعلمتُ تحريك القدمين كما لو كانتا تنبضان بالحياة، وبتت بالتدريج مولعا بهذا المجال. لم تكن درجاتي في المدرسة جيدة، لذلك أخبرتُ والدي عندما كنت في الصف التاسع أنني أفضل أن أصبح محرك دمى على أن أذهب إلى المدرسة الثانوية“.
وعلى النقيض من الكثير من الفنون التقليدية الأخرى، يعتمد فن البونراكو على الجدارة فقط، ووجود ممارس مشهور كوالد مثلا لا يضمن النجاح. كما أن التدريب قد يكون شاقا.
يُشير كانجورو إلى أن ”الدمى المتحركة ليست شيئا يُلقن بالكلمات وحدها. وبالتالي لن يُخبرك أحد بكل ما تريد معرفته حتى ولو سألت. عليك أن تراقب أداء الآخرين، وسترتكب الكثير من الأخطاء قبل أن تُتقنه. تبدأ بالتعامل مع القدمين، لكنه أمر مرهق جدا للجسد. ولا سيما عندما تكون الشخصية جالسة بوضعية سكون، عليك إبقاء وركيك منخفضين ورأسك مائلا للخلف لفترة طويلة، وهو أمر قد يكون مرهقا للغاية. إنها مهنة تختبر قدرتك حقا على التحمل“.
وبمجرد أن يبدأ المرء باكتساب مختلف التقنيات، لا مجال للتراجع. ”أفضل طريقة للتعلم في البداية هي التدرب على تحريك القدمين، لأنك عندئذ تكون بجوار أوموزوكاي مباشرة، فلا تتمكن من مراقبة حركاته فحسب، بل يمكنك أيضا الشعور بها. وكلما تعلمتُ أكثر، خفّت صعوبة التدريب، وازداد شغفي بالبونراكو. ولعلي أنا اليوم أكثر عشقا للبونراكو من أي شخص آخر!“.
توسيع إمكانات فن البونراكو
تمرّس كانجورو على يد يوشيدا مينوسوكي الثالث المحدد ككنز قومي حي عام 1994. وكان والده، كيريتاكي كانجورو الثاني، الذي كان يحمل هذا اللقب عام 1982، هو من اختاره كمعلم له. ”قال لي والدي في أحد الأيام: اذهب وتعلم على يد مينوسوكي، وهذا ما فعلته بالتحديد“.
في كتاب نُشر في الذكرى الخمسين لبداية مسيرته المهنية، كتب كانجورو عن معلمه:
معلمي محرك دمى نادر، يتمكن من تقمص الشخصية بمجرد حمل الدمية، لكن ذلك ليس شيئا بمقدوري فعله. ولو أرغمت نفسي على أن أكون مثله، فلربما تركت هذه المهنة منذ زمن طويل. في الواقع، بعد أن باشرت التدريب معه بفترة وجيزة، أخبرني بصراحة أنني لن أتمكن أبدا من القيام بما يفعله. وقال ”يمكنني تعليمك كل ما أعرفه، لكنك لن تتمكن من تأديته. لذلك يتعين عليك إيجاد طريقك الخاص“. أنا ممتن حقا لأنه شاركني بهذه الرؤية.
وبفضل هذه النصيحة، طور كانجورو أسلوبه الخاص وصقل مهاراته الفنية ونال لقب كنز قومي حي عام 2021، وهو إنجاز كبير حققه جيلان – الأب والابن – كمعلم وتلميذ. والسبب في نيله اللقب هو تجسيده المتقن لتقنيات فن العرائس ” بونراكو“ التقليدي، كما يتضح من مهاراته في تأدية طيف واسع من الأدوار، للرجال والنساء.
”أعمل كمحرك دمى منذ ما يقرب من 60 عاما، لذلك لم يعد هناك على المستوى الشخصي ما يتعين عليّ تعلمه. لكن فيما يتعلق بالعمل كفريق من 3 أشخاص لتحريك الدمى، أشعر أن هناك إمكانيات لم تُستغل بعد. إنه نظام فعال بشكل مذهل تطور على مدار قرون من الزمن، وستكون مهمة تحسينه شاقة، لكن لطالما استمتعت بخوض تحديات جديدة“.
من بين مبادرات كانجورو الأخيرة ابتكار أعمال جديدة والتعاون في مختلف الأنواع الفنية. ففي عام 2024، أشرف على إنتاج رائد تمثل في دمج الرسوم المتحركة في تصميم المسرح، وحظي العمل بنجاح داخل 5 مدن أمريكية.
”لا معنى للفنون الأدائية بدون وجود جمهور، لكن حجم قاعدة معجبي فن البونراكو ليس كبيرا حاليا للأسف. وهذه مشكلة خطيرة، آمل أن يتزايد عدد الناس الذين يحضرون عروضنا. أنا متأكد من أنهم سيرغبون في مشاهدة المزيد حالما يشاهدون إحدى هذه العروض. ومن جانبنا، علينا تكثيف جهودنا الترويجية مع ضمان نقل مهاراتنا إلى الجيل القادم. لا يزال يتعين علينا القيام بالكثير من العمل“.
كيريتاكي كانجورو يؤدي دور ”كيتسوني تادانوبو“ في مسرحية ”يوشيتسوني وألف شجرة كرز“ في مهرجان نيبّون بونراكو الذي أقيم في مارس/آذار عام 2017 في معبد إيسي. (تصوير: كيتشين مينورو)
الأعمال المشار إليها في المقالة
- كاناديهون تشوشينغورا (مترجمة بعنوان ”تشوشينغورا: كنز الأتباع المخلصين“ من قبل دونالد كين)
- يوشيتسوني سينبون زاكورا (مترجمة بعنوان ”يوشيتسوني وألف شجرة كرز“ من قبل ستانلي جونز جونيور)
(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، المقابلة والنص بقلم سوغيهارا يوكا وباور نيوز. الترجمة من الإنجليزية. صورة العنوان: © ميزونو هيروشي)