
من رماد الحرب إلى صفحات المانغا: كيف أعادت اليابان تشكيل ثقافتها البصرية
من أوساكا إلى العالم… كيف بدأت المانغا اليابانية صعودها الصاروخي؟
مانغا وأنيمي- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
أوساكا: المكان الذي بدأ منه صعود المانغا اليابانية المذهل
بدأ تطور المانغا في منطقة تُعرف اليوم باسم ”ماتسوياماتشي“ في حي تشوؤو بمدينة أوساكا. تشتهر هذه المنطقة بوجود العديد من تجار الجملة الذين يبيعون الدمى، الألعاب، الحلويات الرخيصة، والمنتجات الورقية. لكن صناعة النشر فيها، التي لعبت دورًا محوريًا في تاريخ المانغا، لا تحظى بنفس الشهرة.
تُظهر الصورة ممرًا تجاريًا في ماتسوياماتشي يُعرف الآن باسم “غوتشاماتشي”، وهو موطن للعديد من متاجر الجملة (© بيكستا)
مشهد لشارع يعود إلى ماتسوياماتشي في ستينيات القرن العشرين. (© كيودو)
تُعتبر طوكيو اليوم مركز صناعة النشر في اليابان. لكن في العصر ما قبل الحديث، خلال فترة إيدو (1603-1867)، كان للبلاد ثلاثة مراكز رئيسية للنشر: أوزاكا (التي تُعرف الآن بأوساكا)، وكيوتو، وإيدو (التي أصبحت طوكيو لاحقًا). حتى في عصر ميجي اللاحق (1868-1912)، ظلت منطقة أوساكا موطنًا لناشرين مؤثرين مثل ”تاتسوكاوا بونميدو“، التي أصدرت تحت علامتها التجارية ”تاتسوكاوا بونكو“ سلسلة قصص النينجا الشهيرة ”ساروتوبي ساسوكي“. تجمّع هؤلاء الناشرون في منطقة تمتد من حي شينسايباشي في ميناميسيمبا إلى ماتسوياماتشي.
في يناير/كانون الثاني 1947، بعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية، أصدرت دار نشر ”إيكوي شوبانشا“، ومقرها حي جونيكينشو المجاور، مانغا بعنوان ”شين تاكاراجيما“ (جزيرة الكنز الجديدة). رُسمت هذه المانغا بواسطة تيزوكا أوسامو بناءً على قصة من تأليف ساكاي شيتشيما. كان ساكاي فنانًا مخضرمًا عمل على نطاق واسع كرسام مانغا ومُحرّك رسوم قبل الحرب. أما تيزوكا، الذي سُيُطلق عليه لاحقًا لقب ”إله المانغا“، فكان في ذلك الوقت طالبًا مغمورًا لا يزال يتنقل إلى محاضراته في كلية الطب بجامعة أوساكا.
“جزيرة الكنز الجديدة” لتيزوكا أوسامو. (الصورة مقدمة من ناكانو هارويوكي)
في يوليو/تموز 1946، زار تيزوكا منزل ساكاي برفقة فنان مخضرم آخر يُدعى أوساكا توكيو. انسجم ساكاي وتيزوكا بسرعة، واقترح ساكاي تعاونًا بينهما. وافق تيزوكا على الفور، فقد كان يعمل على تطوير أسلوب جديد للمانغا، لا يُصنف ككتاب هزلي ولا كرواية، منذ أيامه كطالب في مدرسة كيتانو الإعدادية (التي تُعرف الآن بمدرسة كيتانو الثانوية). وهكذا، بدأ تيزوكا برسم مانغا استنادًا إلى لوحات القصة التي أعدها ساكاي.
يتتبع البطل، وهو صبي صغير، خريطة للبحث عن كنز مخفي. في رحلته، يتعرض لهجوم من القراصنة، ويواجه عاصفة، ثم يُجرف إلى جزيرة مجهولة - وهي، بمحض الصدفة، الجزيرة المحددة على خريطته! لكن ما إن يبدأ استكشافها، يهاجمه القراصنة مجددًا. استُلهمت القصة من رواية ”جزيرة الكنز“ لروبرت لويس ستيفنسون، واستطاعت مغامراتها الجامحة أن تأسر قلوب الأطفال اليابانيين في عصر ما بعد الحرب.
كثيرًا ما ادعى تيزوكا أن مبيعات العمل تجاوزت 400 ألف نسخة، لكن بالنظر إلى نقص الورق ومحدودية تكنولوجيا الطباعة في تلك الحقبة، فمن المرجح أن العدد الحقيقي كان في حدود عشرات الآلاف - وهو رقم مذهل لمانغا أطفال في ذلك الوقت.
إشعال ازدهار ”مانغا القصة“
أشعل عمل تيزوكا وساكاي ازدهارًا استثنائيًا في أوساكا. بالإضافة إلى شركات النشر التقليدية التي كانت تعمل منذ ما قبل الحرب، بدأت شركات ألعاب صغيرة أيضًا في نشر المانغا. كان العديد من المؤلفين شبابًا في سن المراهقة والعشرينيات، مثل تيزوكا نفسه. من بينهم كوماتسو ساكيو، طالب في جامعة كيوتو، الذي أصبح لاحقًا شخصية رائدة في عالم الخيال العلمي. لا يزال عمله الضخم ”غرق اليابان“ محفورًا في الذاكرة حتى اليوم.
قدمت هذه الموجة الجديدة من فناني المانغا شخصيات معقدة كما في الأفلام، مستخدمين تقنيات مثل التلميح المسبق لزيادة الإثارة الدرامية. تخلوا عن السرديات التقليدية للخير ضد الشر، وفعلوا ما كان غير متوقع في كتاب هزلي بقتل الشخصيات الرئيسية. أطلق تيزوكا على هذا الأسلوب السينمائي الجديد اسم ”مانغا القصة“.
يعود سبب استخدام ناشري المانغا في أوساكا للعديد من الفنانين غير المختبرين إلى صيغة ”تانكوبون“، التي جعلت من الممكن إصدار مجلدات رخيصة تجمع أعمالًا من مصادر تُنشر بشكل متكرر. في طوكيو، كانت المانغا تظهر عادةً في مجلات الأطفال كمجموعات من قصص قصيرة عديدة يكتبها فنانون متمرسون، مما ترك مساحة ضيقة للمواهب الشابة الصاعدة. تميزت ”مانغا القصة“ لتيزوكا عن هذه القصص البسيطة ذات الطابع الأخلاقي.
سخر فنانو المانغا ونقاد طوكيو من مانغا أوساكا ووصفوها بـ”أكاهون“ أو ”الكتب الحمراء“ الرخيصة، وهي تسمية جاءت من الورق الملون بالأحمر الرخيص المستخدم في طباعتها. ومع ذلك، نجح تيزوكا، الذي واصل التجارب بمفرده بعد استقلاله عن ساكاي، في استخدامها ليمهد الطريق لأسلوب جديد كليًا في السرد المصور.
من بين أعماله ”العالم المفقود“، الذي نُشر في مجلدين بواسطة شركة ”فوجي شوبو“ في عام 1948. كان هذا العمل طويل الأمد من النوع الذي حلم تيزوكا بإنشائه منذ أيام دراسته الإعدادية. تدور القصة حول كوكب متمرد يُدعى ”مامانغو“ يقترب بسرعة من الأرض حاملًا ”أحجار الطاقة“ الغامضة. تضم الشخصيات المتنوعة عالمًا شابًا، ومحققًا، وجماعة من اللصوص، ومراسل صحفي مشبوه. يلتقي العالم الشاب بفتاة هجينة بين الإنسان والنبات، لكن المراسل يخونهما ويتركهما عالقين على مامانغو. صدمت نهاية القصة المأساوية بموت ”مي-تشان“، الأرنب الخارق الواعي الذي لعب دورًا مهمًا في مساعدتهما على العودة إلى الأرض، القراء الشباب في تلك الحقبة.
“العالم المفقود” لتيزوكا. (الصورة مقدمة من ناكانو هارويوكي)
فوجيكو فوجيو، إيشينوموري شوتارو، ونجوم وطنيون آخرون
انتشرت ”مانغا القصة“ لتيزوكا من أوساكا إلى جميع أنحاء اليابان. في توياما، أثرت على ثنائي أصبحا لاحقًا معروفين باسم ”فوجيكو إف. فوجيو“ و”فوجيكو إيه. فوجيو“؛ في ميياغي، ألهمت إيشينوموري شوتارو؛ في نارا، أثرت على أوميزو كازو؛ وفي فوكوكا، شكلت مسار ماتسوموتو ليجي. غيرت لقاءاتهم الأولى مع مانغا تيزوكا أذواقهم ومساراتهم المهنية.
بدأ تيزوكا السفر إلى طوكيو في عام 1950، حين نُشرت قصته ”جانغورو تايتاي“ (المعروفة بـ”كيمبا الأسد الأبيض“) بشكل مسلسل في مجلة ”مانغا شونين“ الشهرية. صورت القصة دراما ثلاثة أجيال من الأسود في غابات أفريقيا، وانتهت بذروة مأساوية بموت البطل ليو.
انتقل تيزوكا إلى طوكيو في عام 1952 بعد اجتياز امتحانات كلية الطب. تبعه جيل من الأطفال الذين أحبوا أعماله، وبعد أن كبروا، قدموا أعمالهم الخاصة في مجلات المانغا في طوكيو. وبهذه الطريقة، انتشرت ”مانغا القصة“ من أوساكا إلى كل أنحاء اليابان.
تيزوكا أثناء العمل. (© جيجي برس)
ظهور أنواع جديدة من مشهد استعارة الكتب
في عام 1956، شهدت أوساكا تطورًا آخر في المانغا، بفضل دار نشر تقع في حي أندوجيماتشي في منطقة مينامي (التي تُعرف حاليًا بحي تشوؤو). أصدرت دار ”هاكو“، الناشرة للمانغا المخصصة لمكتبات الإيجار، أول ”غيكيغا“، وهو نوع جديد من المانغا يُعرف بـ”الصور الدرامية“، بواسطة مجموعة من المؤلفين الشباب الصاعدين. غير هذا الأسلوب الذي ابتكروه وجه المانغا في اليابان.
في ذلك الوقت، كان هناك حوالي 30 ألف مؤسسة في اليابان تُعرف باسم ”كاشيهون-يا“، وهي مكتبات تعير الكتب والمجلات مقابل رسوم. كانت هذه العمليات صغيرة ومتواضعة، وكثير منها بأرضيات ترابية. كانت تؤجر الكتب بتكلفة تتراوح بين 10 و20 ين ياباني يوميًا لكل عنوان. كان الطلب كبيرًا لدرجة أن الناشرين كانوا يصدرون كتبًا مخصصة لهذه المكتبات بدلاً من بيعها في المكتبات العادية. كان النوع الأكثر شعبية هو المانغا، وكانت أوساكا مركزًا رئيسيًا لنشرها. بالإضافة إلى ”هاكو“، تنافست شركات مثل ”توكودو“، و”بونيوشا“، و”ميشيما شوبو“، و”واكابا شوبو“، و”كينريو شوبانشا“، متفوقة على منافسيها في طوكيو وناغويا.
كانت دور النشر في أوساكا لكتب الإيجار عمليات صغيرة جدًا، أقل حجمًا بكثير من الأسماء الكبيرة في طوكيو مثل ”شوغاكوكان“، و”شوئيشا“، و”كودانشا“. لكنها اتخذت نهجًا تحريريًا أكثر مرونة، مما منح كتابها وفنانيها حرية غير مسبوقة.
ضمت قائمة ”هاكو“ أسماء مثل تاتسومي يوشيهيرو، وماتسوموتو ماساهيكو، وساتو ماساآكي، وسايتو تاكاو، وهي مجموعة من المبدعين الشباب الذين بدأوا يأخذون المانغا في اتجاهات جديدة كليًا. أصبح سايتو لاحقًا مبدع ”غولغو 13“، وهو نجاح وطني، بينما جذبت مانغا تاتسومي المتمردة معجبين في أمريكا الشمالية وأوروبا. في ذلك الوقت، كانوا لا يزالون في العشرينيات من عمرهم، يعملون في الخفاء.
الفنان سايتو تاكاو، مبدع “غولغو 13”، توفي في سبتمبر/أيلول 2021. هذه الصورة من معرض في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 في مدينة ساكاي، حيث عاش طفولته. (© جيجي برس)
نشأ هؤلاء المبدعون المفعمون بالحيوية والطموح على ”مانغا القصة“ لتيزوكا، لكنهم وجدوا أنفسهم يرغبون في شيء أكثر. كانت ”مانغا القصة“ موجهة للأولاد والبنات الصغار، مع أبطال يتناسبون مع هذه الفئة العمرية، مما أدى إلى عالم غريب حيث يقود الأطفال سيارات، ويحملون أسلحة، ويقاتلون بالسيوف إلى جانب شخصيات ثانوية بالغة.
أفلام باستخدام الورق والقلم
كان العديد من زبائن مكتبات الإعارة من العمال الشباب الذين يعملون في المصانع والمتاجر المحلية. سعى سايتو وتاتسومي إلى إنشاء مانغا تتناغم مع هذا الجيل. بدلاً من سرد قصص عن أطفال يرتدون أزياء الأبطال الخارقين، حاولوا تصوير شخصيات بحجم الحياة الواقعية تواجه معضلات واقعية وصراعات داخلية. في مقابلة قبل وفاته، قال سايتو لي: ”حاولنا صنع أفلام باستخدام الورق والقلم“.
في عام 1956، أطلقت ”هاكو“ مجموعة طموحة من القصص القصيرة لفنانين شباب تحت اسم ”كاغي“ (الظل)، نُشرت لسوق كتب الإيجار. أدرك المبدعون أن مصطلح ”مانغا“، الذي يعني ”الصور الممتعة“، لا يعكس نية أو جو أعمالهم. كان الفنان تاتسومي يوشيهيرو هو من صاغ كلمة ”غيكيغا“، التي تعني ”الصور الدرامية“، لتعرّف هذا النوع الجديد.
عدد من مجلة “كاغي”، وهي مجلة غيكيغا رائدة. (الصورة مقدمة من ناكانو هارويوكي
في يناير/كانون الثاني 1959، أسس تاتسومي ”ورشة الغيكيغا“ في أوساكا. بحلول عام 1960، بدأ أعضاؤها بالانتقال إلى طوكيو، واستقروا في مبنى سكني في مدينة كوكوبونجي غرب مركز العاصمة. مستوحاة من ”كاغي“، بدأت دور النشر في طوكيو بإصدار موجة من مختارات كتب الإيجار، مما زاد الطلب على أعمال بأسلوب الغيكيغا.
في البداية، رفضت مجلات الأطفال الغيكيغا ووصفتها بأنها ”عنيفة جدًا“ أو ”فجة“. لكنها لم تستطع تجاهل شعبيتها المتنامية. بحلول عام 1967، بدأت حتى مجلات الأطفال بنشر قصص بأسلوب الغيكيغا. في مجلة ”شونين“ الشهرية، أطلق سايتو تاكاو سلسلته الجاسوسية ”ذا شادومان“، بينما بدأت مجلة ”شونين ماغازين“ الأسبوعية بنشر دراما الساموراي التاريخية ”مويونوسوكي“.
توسع الجمهور
وصف الفنان تشيبا تيتسويا، المعروف بعمله في مجال الملاكمة ”جو الغد“، مشهد تلك الحقبة في وثائقي تلفزيوني عام 2011 قائلاً: ”مثل موجة سوداء، اجتاحت الغيكيغا من أوساكا. مع وصولها، أصبح من الممكن تصوير الجوانب المظلمة للطبيعة البشرية“.
في الوقت نفسه، تدهورت صناعة النشر في أوساكا بعد فقدان العديد من فنانيها لصالح مجلات طوكيو، وانهارت تقريبًا بحلول منتصف الستينيات. على النقيض، ازداد ازدهار الغيكيغا في طوكيو قوة. ظهرت مجلات تستهدف الشباب البالغين واحدة تلو الأخرى، بما في ذلك ”ويكلي مانغا أكشن“ في 1967 و”بيغ كوميك“ في 1968. بقيت الغيكيغا في صدارة هذه الحركة؛ حتى تيزوكا أوسامو بدأ في اعتماد أسلوب الغيكيغا في أعماله لمجلات الشباب البالغين.
مكتبة في كاندا، طوكيو، في ذروة ازدهار الغيكيغا في أكتوبر/تشرين الأول 1973. بدأت المانغا تتحول من أدب الأطفال إلى شكل تعبيري كامل للقراء من جميع الأعمار. (© كيودو)
كانت المانغا تُعتبر في السابق مجرد تسلية للأطفال، لكنها بدأت تجذب جمهورًا أوسع وأكبر سنًا بفضل ظهور الغيكيغا. توسعت الموضوعات المصورة أيضًا لتشمل القضايا الاجتماعية، والسياسة، والقمار، وثقافة الطعام، والطب، وغيرها الكثير. ساعدت الغيكيغا المانغا على إدراك تنوعها الحقيقي وعمقها.
اليوم، أصبحت مصطلحات مثل ”مانغا القصة“ و”غيكيغا“ شبه منسية. لكن طوال السبعينيات وما بعدها، استمرت المسارات التي شقوها في التفرع بطرق معقدة، لتشكل في النهاية عالم المانغا اليابانية الغني والمتنوع كما نعرفه اليوم.
التفكير في ”ماذا لو“ غالبًا يكون تمرينًا عقيمًا، لكن من المغري التساؤل عما كان سيحدث للتسلية المصورة في اليابان لو لم تحدث ثورات أوساكا. لو لم تحدث، لربما لم تكتسب المانغا اليابانية - وحتى الأنيمي - الشهرة العالمية التي تتمتع بها اليوم.
(نُشر أصلاً باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي: أعمال معروضة في معرض ”فن المانغا“، يضم أعمال تيزوكا أوسامو، أُقيم في مدريد في أبريل/نيسان 2024. © أوسكار غونزاليس/سيبا الولايات المتحدة/رويترز)