بداية الخرائط اليابانية: كيف خطا إينو تاداتاكا أولى خطواته في رسم اليابان
تاريخ اليابان ثقافة- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
مشروع حياة
خلال الجزء الأخير من عصر إيدو (1603-1868) بدأ المساح الجغرافي إينو تاداتاكا (1745–1818) العمل على رسم خط الساحل الياباني، وقد كان مشروعا ضخما استهلك العقود الأخيرة من حياته. وقد توفي إينو عن عمر ناهز 73 عاما قبل أن يرى العمل الذي استغرق حياته مكتملا على شكل خريطة للبلاد تستند إلى أنشطة المسح التي أجراها. لكنه يحظى بالاعتراف بأنه كان أول شخص يقوم بمسح كامل اليابان باستخدام التقنيات العلمية الحديثة. شكلت مجموعته من الخرائط عالية الدقة أساسا لجهود وضع الخرائط لحكومة مييجي الحديثة.
ولد تاداتاكا على ساحل كوجوكوري في مقاطعة كازوسا فيما يعرف الآن باسم محافظة تشيبا. وعلى الرغم من أن والده كان شخصية مهمة في القرية، إلا أنه عانى من طفولة مضطربة. فقد توفيت والدته عندما كان في السادسة من عمره وكان والده – الذي تزوج من عائلة وانتسب لها – مضطرا لمغادرة الأسرة، ولم يلتم شمل الاثنين مجددا حتى أصبح عمر الصبي 10 سنوات.
كان تاداتاكا طالبا مجدا وموهوبا في الحساب ومولعا بتأمل النجوم. في سن السابعة عشرة تزوج من أسرة إينو وانتسب لها وهي عشيرة تجار في قرية ساوارا المجاورة. وباعتباره وريثا للأسرة فقد استخدم فطنته في مجال الأعمال لإعادة بناء أعمال عائلته في مجال تخمير كحول الساكي والتي كانت متدهورة بالإضافة إلى مؤسسات مالية وغيرها.
كان لدى الشاب حب عميق للتعلم ومتابعة شغوفة لمواضيع مثل الرياضيات وعلم الفلك، حتى عندما كان يعمل بلا كلل من أجل إعادة إنعاش رخاء الأسرة. وبصفته رئيس قرية، فقد استخدم معرفته في مجال المحاسبة لإدارة الموارد المشتركة في القرية، بما في ذلك حساب حصة المجتمع من الأرز خلال أوقات المجاعات، وظهر عليه في وقت مبكر ما يبشر بموهبته في مجال رسم الخرائط فقد رسم خريطة لنهر توني القريب من قريته والتي استخدمت للتحكم بالفيضانات ولأغراض الري (وقد استعان بهذه الخريطة أثناء جهود المسح التي أجراها لاحقا). حازت خبرة إينو الواسعة ومواهبه على إعجاب وتقدير رئيس الإقطاعية الذي منحه شرفا كبيرا بحمل لقب وسيف.
مسح البرية الشمالية
في سن التاسعة والأربعين تنحى إينو من منصب رئيس الأسرة وسلم ابنه مسؤولية إدارة أعمالها، وتقاعد آخذا معه ثروته إلى حي فوكاغاوا في إيدو (طوكيو الآن). وهناك انغمس في دراسة علم الفلك، حيث حول منزله إلى مرصد مليء بمجموعة من معدات لمراقبة السماء. وبعد فترة قصيرة من تقاعده أصبح تلميذا لتاكاهاشي يوشيتوكي وهو عالم فلك رائد في نظام شوغونية توكوغاوا الحاكم، وكان قد كُلف بمهمة مراجعة التقويم الياباني. كان تاكاهاشي على دراية جيدة بعلم الفلك الصيني والغربي، وقد أتقن إينو تحت إشرافه استخدام الأجرام السماوية لتحديد موقعه الجغرافي، وهي مهارة حيوية مكنته من إجراء مسح منهجي لمساحات شاسعة من الأرض.
وبعد ذلك التدريب شرع إينو في تحديد حجم الأرض، وهي مهمة تطلبت منه أولا أن يعمل ضمن مدى يبلغ درجة واحدة من قوس الزوال. حاول ذلك من خلال حساب المسافة بين منزله ومكتب الشوغونية المعني بالتقويم باستخدام تقنية للمسح تسمى ’’التقاطع‘‘ والتي تنطوي على قياس دقيق لطول واتجاه سلسلة من الخطوط المتصلة بين نقطتين ثابتتين. ولكن عندما أبلغ معلمه السابق تاكاهاشي بنتائجه، سرعان ما أعلن الأخير أن الطول الكلي المقاس غير كافٍ، كان هناك خطر كبير جدا في أن يكون قد ارتكب خطأ. وللتوصل لرقم يمكن استخدامه، كان يتعين على إينو أن يقيس على الأقل المسافة بين إيدو وجزيرة هوكايدو في شمال البلاد والتي كانت تسمى حينها إيزو.
كانت إيزو في ذلك الوقت عبارة عن برية غير مأهولة إلى حد كبير تقطنها قبائل الأينو وهم السكان الأصليون للجزيرة. وكان نظام الشوغونية يبقي مجموعة من نقاط المراقبة في جميع أنحاء الجزيرة وكانت تراقب الزوار بصرامة. ولكن مع الزحف المستمر للسفن الروسية، حرص المسؤولون على تعزيز ادعاء أحقية اليابان بالأرض. عندما اقترح تاكاهاشي قيام إينو بإجراء مسح شامل، سمحت الحكومة بالقيام بالرحلة إلى إيزو، حيث قدمت رواتب متواضعة رفدها إينو بأموال شخصية.
وفي عام 1800 قاد إينو فريقا صغيرا باتجاه الشمال وأمضى 6 أشهر في مسح الجزيرة. حازت الخرائط التي أعدها الفريق على إعجاب قادة الشوغونية. وفي السنة التالية تم إرسال إينو لإجراء مسح للخط الساحلي المتشابك المطل على المحيط الهادئ في شمال هونشو، الجزيرة الرئيسية في اليابان. وبحلول وقت جولته الثانية، كان قد حقق هدفه المتمثل في قياس درجة واحدة من خطوط العرض، والتي حددها من قياساته السابقة كانت 28.2 ري أو 110.75 كيلومتر. وقد سُر إينو ومعلمه تاكاهاشي في وقت لاحق بعد أن علما أن نتائجه مطابقة إلى حد كبير مع تلك المنشورة في كتاب ’’عالم الفلك‘‘ المهم لعالم الفلك الفرنسي جيروم لالاند، والذي كان مرجعا مهما للفلكيين اليابانيين في ذلك الوقت.
رسم خرائط لليابان
أكمل إينو على مدار العامين التاليين مسحه لشرقي اليابان، حيث رسم جانب بحر اليابان شمالي هونشو في عام 1802 والجزء الأوسط من الجزيرة في عام 1803. وقدم ثمار عمله إلى الشوغون توكوغاوا إيناري الذي نشر الخرائط في قاعة الاستقبال داخل قلعة إيدو. أثارت الخرائط التفصيلية إعجاب الحاكم لدرجة أنه جعله أحد حاشيته وأمره بمسح المناطق الغربية من البلاد، مع دفع كامل التكاليف على نفقة الحكومة المركزية.
قدّر إينو أن المهمة ستستغرق 3 سنوات لإجراء المسح، لكن رسم خرائط للخلجان وأشباه الجزر والجزر الواقعة على طول شواطئ غرب اليابان المتشابكة أثبت أنه مهمة ضخمة. وابتداء من عام 1805 شرع فريقه – الذي نما من فرقة متواضعة مكونة بشكل رئيسي من تلاميذه، ليضم خبراء مسح من مكتب الشوغونية المعني بالتقويم – برسم خريطة لمنطقة كينكي حيث تقع محافظة نارا في الوقت الحاضر. وخلال العقد التالي، شقوا طريقهم عبر تشوغوكو في الطرف الغربي من هونشو ثم إلى جزر شيكوكو وكيوشو قبل الانتهاء بمسح للعاصمة إيدو نفسها (وقامت البعثة أيضا بإجراء رحلة استقصائية إلى جزر إيزو، لكن التقدم في السن حال دون مشاركة إينو). وفي المجمل أمضى إينو 17 عاما في مسح اليابان، حيث سار عشرات الآلاف من الكيلومترات في هذه العملية.
طور إينو طريقة المسح الخاصة به والمتمثلة في إجراء تقاطع مفتوح. فقد كان يقيس المسافة بدءا من موقع معلوم إلى نقطة مرجعية ثانية ويحسب مواقع نقاط العلام مثل الجبال والجزر المتعلقة بالخط. وقد حدد خط عرضه بدرجة دقيقة تثير الإعجاب من خلال مراقبة الارتفاع الزوالي للنجوم الثابتة ثم مقارنة الأرقام مع قراءات من نقاط معروفة على طول الطريق وفي إيدو. ومع ذلك فقد ثبت أن تحديد خط الطول يمثل تحديا أكبر. قام إينو بقياس أوقات خسوف القمر وكسوف الشمس خلال رحلاته مع ساعة رقاصية، لكن سوء الأحوال الجوية أثناء تلك الأحداث وعدم وجود ساعة محمولة أعاق بشدة قدرته على تنسيق البيانات بين نقاط المراقبة المختلفة، مما قلل من دقة خطوط الطول في خرائطه.
كما واجهته تحديات أخرى تعين عليه التعامل معها. كان إينو يعاني من الربو وأصيب بالملاريا أثناء رحلة لاحقة، مما تطلب منه وضع أدواته جانبا والسعي للعلاج خلال نوبات المرض. ألزمت القيود الحكومية على السفر الداخلي إينو خلال المسوحات المبكرة على التفاوض مع المسؤولين في كل مجال للحصول على ترخيص للقيام بعمله، ولكن تعيينه لاحقا كأحد حاشية الشوغون أعفاه من ذلك عن طريق التأكيد على تعاون فريقه الكامل مع كل إقطاعية.
إن نجاح إينو في مهمة ضخمة مثل تلك هو شهادة على براعته التقنية وتصميمه الراسخ. كما استفاد بشكل كبير من دعم تاكاهاشي وابنه كاغياسو، الذي تولى منصب والده في مكتب الشوغونية المعني بالتقويم، فضلا عن الدعم المالي والإداري للحكومات المركزية وإدارات المقاطعات والذي كان عنصرا أساسيا لنجاح المسوحات.
عمل غير مكتمل
بعد عودته من رحلته إلى كيوشو، أقام إينو في عام 1814 في مكتب الشوغونية المعني برسم الخرائط وبدأ المهمة الشاقة المتمثلة في تحويل كمية هائلة من البيانات التي جمعها في مسوحاته إلى خرائط والتي ستصبح في نهاية المطاف ما يتعارف عليها باسم ’’خرائط إينو‘‘، وهي عبارة عن سلسلة من الخرائط عالية الدقة والمرسومة على مقياس كبير (1:36000) ومتوسط (1:210000) وصغير (1:430000).
ولكن إينو لم يشهد اكتمال المشروع. فقد توفي في عام 1818 وانتقلت مهمة مواصلة عمله لطلابه وموظفين متدني المرتبة في مكتب الشوغونية المعني بالتقويم. وفي نهاية المطاف قدموا الخرائط النهائية لحكومة الشوغون عام 1821 بعد عمل مضن استمر عدة سنوات أخرى.
لم تنشر حكومة توكوغاوا الخرائط أبدا، وبعد نهضة مييجي عام 1868 فقدت النسخ الأصلية في حريق اندلع في القصر الإمبراطوري. في وقت لاحق قامت وزارة الداخلية والجيش والبحرية بإعداد الخرائط الرسمية لليابان استنادا إلى نسخ من أعمال إينو تم الحصول عليها من عائلته، ولكن هذه النسخ المقلدة أيضا ضاعت في الحرائق التي اندلعت بسبب زلزال كانتو الكبير في عام 1923. الأمثلة على خرائط إينو الموجودة اليوم تأتي من مجموعات خاصة، بما في ذلك نسخ مهداة لرؤساء إقطاعيات. وقد تم تعيين الكثير من تلك الخرائط من قبل الحكومة باعتبارها ممتلكات ثقافية مهمة وكنوزا وطنية.
لا يحظى إينو اليوم بالتقدير والإعجاب بسبب إنجازه الضخم في مسح جميع أنحاء اليابان فحسب، بل وأيضا لحقيقة أنه باشر مسيرته المهنية الثانية في مثل ذلك العمر المتقدم مما دفع البعض إلى رؤيته كنموذج للمجتمع الهرم في البلاد.
ولكن الصورة التي خلفها إينو لم تكن إيجابية بالمطلق. فبينما كان صحيحا أنه كان مساحا جغرافيا موهوبا وزعيما ماهرا امتلك التزاما راسخا لمهمته، كان معروفا أيضا أنه صارم وغير مرن في التعامل مع الآخرين، لدرجة أنه تبرأ من ابنه وابنته وطرد تلاميذه.
ولكن طغى على هذه الجوانب الصارمة من شخصيته إنجازه الكبير. ففي عام 1883 قادت مجموعة من رجال الدولة اليابانيين من بينهم سانو تسونيتامي (أحد حاشية رئيس إقطاعية ساغا، وكان قد تأثر بشدة بخرائط إينو أثناء خدمته في مركز التدريب البحرية في ناغاساكي) وإينوموتو تاكيأكي (الذي كان والده تلميذا لإينو وشارك في العديد من الرحلات)، حملة لمنح رسام الخرائط الشهير بعد وفاته لقبا إمبراطوريا متوسط المرتبة.
في الآونة الأخيرة تميز الاحتفال الذي تم عام 2001 في ذكرى مرور 200 عام على أول رحلة استقصائية لإينو والمراسم التي أقيمت عام 2018 في الذكرى المئوية الثانية لوفاته بمجموعة متنوعة من الفعاليات من بينها محاضرات ألقاها خبراء ومعارض لخرائطه وجولات مشي تذكارية لتتبع المسارات التي سلكها إينو، وحتى تصوير فيلم يحكي قصة حياته، وهو ما يوضح أن الاهتمام العام برسام الخرائط لا يزال قويا حتى بعد قرون من الزمن.
(المقالة الأصلية منشورة باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: صورة لإينو تاداتاكا وهي بإذن من متحف إينو تاداتاكا التذكاري)