سوق العمل اليابانية على مفترق طرق: التحديات الديموغرافية تعيد رسم المشهد الوظيفي

سباق مع الزمن: هل تكفي زيادة الرواتب لتفادي شبح نقص العمالة في اليابان؟

مجتمع

في مشهد ياباني اعتاد لسنوات على الاستقرار الوظيفي والرواتب المتقاربة، بدأت الملامح تتغير. إذ رفعت شركات عدة مؤخرًا رواتبها الأساسية لتتجاوز حاجز الـ 300 ألف ين، في تحوّل واضح عن النموذج التقليدي. ففي السابق، كان التماثل في الأجور داخل القطاعات أو حتى داخل الشركة نفسها أمرًا شبه مُسلّم به. لكن مع تصاعد أزمة نقص اليد العاملة، بدأت هذه القواعد بالتفكك، ما يفتح الباب أمام تحولات جذرية في عادات التوظيف اليابانية، من التوظيف مدى الحياة إلى أنظمة الأجور المبنية على الأقدمية.

”المساواة“ في الرواتب الأولية المرتبطة بعادات التوظيف اليابانية

أولاً، للتأكد بشكل بسيط من حقيقة أن الرواتب الأولية كانت تقليديًا متماثلةً تقريبًا في جميع القطاعات، قمنا بحساب التباين في الراتب المنتظم (الأجر الشهري الذي يتم تلقيه عند العمل في ساعات العمل العادية) لخريجي الجامعات الذكور الجدد العاملين لدى شركات من نفس الحجم وفي نفس القطاع. ستكون هذه القيمة صفرًا إذا كان الراتب الأولي للجميع متساويًا. وبالإضافة إلى ذلك، وللمقارنة مع الخريجين الجدد، قمنا أيضًا بحساب التباين في الراتب المنتظم لخريجي الجامعات الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و40 و50 عامًا والذين يعملون في نفس الشركة وقد استمروا في العمل هناك منذ التحاقهم بها كخريجين جدد، وتظهر النتائج في الرسم البياني التالي.

التباين في الرواتب المنتظمة بناءً على الحياة المهنية (عام 2023)

وهذا يعني أنه كلما كانت الأرقام في الرسم البياني أصغر، كان التباين أصغر، ولكن التباين في الأجور عند التخرج يكون عمومًا أكثر أو أقل من 0.1 بقليل. وعلى الرغم من أنهم ليسوا على قدم المساواة مع بعضهم البعض بشكل كامل، فإن الاختلافات صغيرة للغاية. وكما هو موضح في الرسم البياني أعلاه، ففي بعض القطاعات مثل القطاع المالي، يتزايد التباين في الأجور مع التقدم في السن، مما يشير إلى أن المساواة في الأجور تميل إلى التلاشي مع استمرار الموظفين في العمل.

وقد يرجع ازدياد التباين على مدار الحياة المهنية إلى التباين الذي يحدث عندما يقوم أصحاب العمل بتقييم قدرات الموظفين تدريجيًا، بالإضافة إلى الاختلافات الفردية في وتيرة تحسين الموظفين لقدراتهم واكتساب الخبرة. ويمكن تفسير صغر التباين في الرواتب الأولية على أنه نتيجة لكون الأشخاص متجانسين بمعنى عدم وجود فروق فردية في القدرات، أو أن هذه الاختلافات ليست واضحة لأصحاب العمل، أكثر من كونه تعبيرًا عن المساواة فيما بينهم.

انخفاض الرواتب الأولية بسبب التنسيق بين الشركات

في عادات التوظيف اليابانية، تم تحديد الأجور في ”سوق العمل الداخلية“ للشركات مثل إدارة الموظفين في ظل التوظيف الطويل الأجل، ولكن الرواتب الأولية يتم تحديدها من خلال ”سوق العمل الخارجية“، وهي علاقة العرض والطلب بين الشركات وطالبي العمل. وقد تمت الإشارة إلى أن الأجور الأولية يتم تحديدها للعمال عديمي الخبرة بعد التخرج مباشرة، وأن أهمية ومسؤوليات الوظيفة قليلة بشكل موحد، وأن توقيت التوظيف موحد في جميع أنحاء البلاد، مما يسهِّل إرساء المبدأ الاقتصادي ”سعر واحد لشيء واحد“ في سوق العمل الخارجي.

ولكن في سوق توظيف الخريجين الجدد، تكون القدرة التفاوضية للعمال عديمي الخبرة ضعيفة، وبالإضافة إلى قيود الوقت وعدم التماثل في المعلومات خلال فترة البحث عن عمل، فإن عدد الشركات المتنافسة على توظيف الخريجين الجدد محدود نسبيًا. ونتيجة لذلك، يعتقد البعض أن الشركات كانت حتى الآن تقوم بتحديد الأجور بالتنسيق مع الشركات المنافسة لها، مستخدمةً تكلفة المعيشة لشخص واحد كمعيار مرجعي.

ومن المعتاد في اليابان أن يقال إن موظفي الموارد البشرية في شركة ما يتبادلون المعلومات بانتظام مع موظفين من شركات أخرى حول أنظمة الأجور ومعدلات الأجور، لذا فمن الصعب رفض التفسير القائل بأن المساواة في الأجور هي نتيجة لعمل منسق من جانب أصحاب العمل. ومن الممكن أن تتمكن الشركات، من خلال التنسيق فيما بينها، من تحديد الرواتب الأولية عند مستويات أقل من الإنتاجية، على سبيل المثال، وبالتالي تحديد منحنى أجور متصاعد من تلك النقطة فصاعدًا، وبالتالي تتمكن من الحفاظ على نظام أجور قائم على الأقدمية والتوظيف على المدى الطويل.

وبالنسبة للخريجين الجدد، لا تتطلب عادات التوظيف اليابانية منهم الحصول على أعمال محددة أو مهارات محددة في وقت التوظيف، وبالتالي فإن العقبات التي تحول دون العثور على عمل تكون أقل في ظل التوظيف الجماعي للخريجين الجدد، وحتى إذا كانت الأجور منخفضة عند الانضمام إلى الشركة، فإن من محاسن هذا النظام أنه يمكنهم توقع زيادتها في المستقبل.

ولكن، في السنوات الأخيرة، يُعتقد أن الشركات تقوم بمراجعة هياكل أجورها للجمع بين الأجور والمكافآت الشهرية من أجل الحفاظ على مرونة تكلفة العمالة، وفي مثل هذه الحالات سيكون من الصعب تحديد الأجور من خلال التنسيق بين الشركات.

وفي ظل عادات التوظيف اليابانية، حيث يُفترض التوظيف على المدى الطويل، يُعتقد أنه من السهل على الشركات أن توظف بشكل مستقر العدد الذي تحتاجه من الأشخاص، وربما لم تكن هناك حاجة للخروج عن نظام الأجور القائم على المساواة لتقديم أجور أعلى، أو زيادة عدد الأشخاص الذين توظفهم. وعلاوة على ذلك، في ظل نظام الأجور القائم على الأقدمية في العمل، فإن رفع الرواتب الأولية يتطلب زيادة مقابلة في أجور أولئك الذين لديهم فترات خدمة أقصر، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة مقابلة في تكاليف العمالة للشركات، وبالتالي فمن المحتمل أن الشركات كانت حذرة بشأن رفع الرواتب الأولية.

الانهيار المستمر في المساواة في الأجور

إذا كان هناك ميل لدى الشركات التي من نفس الحجم ونفس القطاع إلى تطبيق المساواة بالأجور، فيمكن القول إن هناك وعيًا أكبر بالمساواة في الأجور في المجموعات التي يوجد فيها تباين أقل في الرواتب الأولية. ويوضح الرسم البياني أدناه توزع الرواتب الأولية حسب مزيج حجم الشركة ونوع القطاع.

توزع الأجور الأولية للذكور المتخرجين من الجامعات (عام 2023)

وكلما ارتفع مستوى الذروة لتوزع الأجور، كلما تركزت الرواتب الأولية في نطاق تباين ضيق. وبغض النظر عن القطاع أو الحجم، فإنه يتم توزع الرواتب الأولية عمومًا في نطاق ذروة واحد يتراوح بين 200 ألف و250 ألف ين، وهو نطاق ذروة أحادي (ذو ذروة واحدة). على سبيل المثال، في الشركات الكبرى في قطاعي البنوك والأوراق المالية، تتركز الرواتب الأولية في نطاق تباين يتراوح بين 20 ألف و30 ألف ين، ولكن في قطاع التعليم المدرسي وقطاع المطاعم والمقاهي، يكون التوزع أكثر تشتتًا في نطاق تباين يزيد على 100 ألف ين.

وبالنظر إلى بنية المساواة في الرواتب الأولية على مر الزمن، سنجد دلائل على التغيير الذي بدأ في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في حين أن زيادة الحد الأدنى للأجور أدت إلى زيادة الرواتب الأولية، إلا أنه ظهرت بعض الشركات التي تقدم لبعض موظفيها رواتب أولية أعلى من المستوى العام للرواتب، الأمر الذي أدى إلى تزايد التباين في الأجور.

الشركات الرئيسية التي قامت بزيادة الرواتب الأولية إلى أكثر من 300 ألف ين

بنك ميتسوي سوميتومو 300 ألف ين (255 ألف ين)
شركة طوكيو كايجو نيتشيدو كاساي للتأمين 410 آلاف ين على الأكثر (280 ألف ين)
شركات بيع التجزئة 330 ألف ين (300 ألف ين)*
شركة ميجي ياسودا للتأمين على الحياة 332 ألف ين (295 ألف ين)**
شركة شيميزو للبناء 300 ألف ين (280 ألف ين)**

*الالتحاق بالشركة في 3/2025، **الالتحاق بالشركة في 4/2025، وغير ذلك الالتحاق بالشركة في 4/2026
الرواتب المعنية هي الرواتب الأولية للمتخرجين من الجامعات، الرواتب التي بين قوسين هي الرواتب المقدمة حتى ذلك الوقت
المصدر: إعداد قسم التحرير بناءً على تقارير إعلامية مختلفة

ويوضح الرسم البياني الثالث توزع الرواتب الأولية في البنوك المحلية. وكما رأينا أعلاه، فإن التباين في الرواتب الأولية أقل من الفئات العمرية الأخرى، لكن المقارنة بين عامي 2006 و2022 تظهر أن بعض البنوك رفعت رواتبها الأولية، بينما حددت بنوك أخرى رواتب أولية أعلى، في حين أن المقارنة بين عامي 2022 و2024 تظهر زيادة كبيرة في التباين.

وقد ظهرت شركات تقدم رواتب أولية تبلغ نحو 300 ألف ين أو أكثر في بعض قطاعات تجارة الجملة، والبرمجيات، وتجارة العقارات، وغيرها من القطاعات منذ عام 2019، قبل جائحة كورونا عندما كان معدل الطلب على توظيف خريجي الجامعات الجدد مرتفعًا. وفي الآونة الأخيرة، قام عدد من الشركات برفع الرواتب الأولية بشكل كبير، حتى في القطاعات التي كانت الرواتب الأولية فيها تزيد قليلًا عن 200 ألف ين قبل جائحة كورونا.

توزع الرواتب الأولية في البنوك المحلية (المهن العامة للمتخرجين الجدد)

وفيما يتعلق بالرواتب الأولية، وعلى خلفية الارتفاع التاريخي في الشعور بنقص اليد العاملة، وخاصة بين الموظفين بدوام كامل، وانخفاض نسبة طبقة الشباب في القوى العاملة، وزيادة معدل ترك العمل بين جيل الشباب، تقوم بعض الشركات بزيادات كبيرة في الرواتب بهدف تأمين الموظفين المتميزين منذ التحاقهم بالعمل عند التخرج. ومن ناحية أخرى، هناك أيضًا شركات لم ترفع الأجور بنفس القدر الذي رفعته شركات منافسة لها من نفس الحجم ونفس القطاع، ومن المتوقع حدوث تغييرات سريعة في سوق توظيف المتخرجين الجديد الذي كانت فيه الأجور متساوية تقريبًا.

ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه في المستقبل بسبب الشعور المتزايد بنقص اليد العاملة في السنوات الأخيرة، والتقدم النسبي بالعمر للأشخاص العاملين. وإن انهيار ”بنية المساواة“ في الرواتب الأولية، والتباين المتزايد فيها يمكن اعتباره علامة على التغيرات في عادات التوظيف اليابانية، التي تعتمد على التوظيف الطويل الأجل ونظام الأجور القائم على الأقدمية في العمل.

وعلاوة على ذلك، ومع تسارع الابتكار التكنولوجي، كما يتجلى في الذكاء الاصطناعي، يتزايد الطلب على العمالة ذات المهارات العالية القادرة على مواكبة التكنولوجيا الجديدة، ويُعتقد أنه من المحتمل أن تنتشر طريقة التفكير التي تبحث عن أجور تتناسب مع الإنتاجية بين طبقة الشباب الذين يتمتعون بقوة في مثل هذه المجالات.

ومن المتوقع أيضًا أن ترتفع مستويات الرواتب الأولية على خلفية تغير قيم الشباب، بما في ذلك انخفاض التوقعات بشأن عادات التوظيف اليابانية. وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيتغير التباين في الرواتب الأولية.

(النص الأصلي باللغة اليابانية. صورة العنوان الرئيسي: موظفون شباب يسيرون في حي المكاتب في منطقة مارونؤتشي في حي تشيودا في طوكيو، 1/4/2024، © جيجي برس)

    كلمات مفتاحية

    مجتمع اقتصاد فرص العمل

    مقالات أخرى في هذا الموضوع