هكذا غيَّر مبتعثون يابانيون بلادهم وجعلوها قوة عالمية
ثقافة تاريخ اليابان- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
يقدم تاريخ اليابان على مدى الـ 150 عاماً الماضية قصة ملهمة عن الصعود والسقوط والصعود مرة أخرى، مظهراً قدرة استثنائية على التحول والتجدد.
في البداية، شهدت فترة ميجي تحولات جذرية حيث انتقلت اليابان من كونها دولة إقطاعية مغلقة إلى قوة صناعية وعسكرية حديثة. خلال هذه الفترة، حققت اليابان نجاحات ملحوظة بما في ذلك الانتصار في الحرب اليابانية الروسية والمشاركة كإحدى القوى العظمى في الحرب العالمية الأولى. هذه الإنجازات ساهمت في رفع مكانة اليابان على الساحة الدولية.
مع ذلك، اتبعت هذه الفترة الذهبية مرحلة من الغرور والتوسع العسكري الذي قاد اليابان إلى اعتماد سياسات عسكرية متطرفة. هذه السياسات أدت في نهاية المطاف إلى مشاركتها في الحرب العالمية الثانية ومواجهتها لهزيمة مدمرة كادت أن تقضي على وجودها كدولة. هذه الفترة كانت واحدة من أدنى نقاط في تاريخ اليابان الحديث، حيث تعرضت للقصف النووي والاحتلال الأجنبي، مما خلّف شعوراً عميقاً بالعار والهزيمة.
مع ذلك، بعد الحرب العالمية الثانية، أظهرت اليابان مرة أخرى قدرتها على التحول والتجدد. في ما يُعرف بالمرحلة الثالثة من تاريخها الحديث، نهضت اليابان من رماد الحرب لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، من خلال ما يشار إليه غالباً بـ ”المعجزة الاقتصادية اليابانية“. هذا التحول الاقتصادي السريع والنمو المذهل كان نتيجة تركيزها على التعليم، الابتكار التكنولوجي، وتطوير الصناعات المتقدمة.
تاريخ اليابان المعاصر يعكس درساً في الصمود والتجديد، حيث تمكنت من تجاوز الأزمات واستخلاص العبر من الفشل لتشق طريقها نحو النجاح والتقدم. هذه القدرة على النهوض من جديد تظهر قوة الإرادة والتفاني في الشعب الياباني وقيادته، مقدمة نموذجاً للعالم على كيفية التغلب على الصعاب وتحقيق الإنجازات الكبيرة.
جولة حول العالم
في شهر يوليو/تموز من عام 1871 نجحت حكومة ميجي الجديدة في ثورتها السلمية المسماة ”إلغاء المقاطعات وإنشاء المحافظات“، حيث قامت بإلغاء 300 مقاطعة وتوحيد البلاد. وتم تنفيذ ذلك من خلال سلطة الإمبراطور الذي يعد بمثابة كبير الكهنة والذي يتخذ من ”قوة الطبيعة“ التي تستمر منذ القدم دربا للإله. وكان ذلك بمثابة تغيير شامل لدولة الشوغونية (دولة المقاطعات) التي استمرت لمدة 260 عاما، وتفكيك للنظام الإقطاعي. وبعد أربعة أشهر فقط، أصبح أحد قادة الثورة إيواكورا تومومي سفيرا فوق العادة، وأصبح القادة كيدو تاكايوشي وأوكوبو توشيميتشي نوابا له، وذهبوا في رحلة للإطلاع على أمريكا وأوروبا امتدت لمدة عام ونصف العام. فهل يا ترى من الممكن أن نشاهد حالات لمثل هذه الحالة التي تسافر فيها الشخصيات الرئيسية الثلاث سوية خارج الدولة بعد الثورة مباشرة ساعية للحصول على المخططات الهندسية لبناء الدولة الحديثة؟
وبالإضافة إلى ذلك، رافق البعثة خمسون شخصا من النخبة التي ستقود الجيل القادم بدءا بإيتو هيروبومي وخمسون طالبا للدراسة في الخارج. حيث كان هناك نية للقيام بجمع الأبحاث الأولية حول التحديث الذي يقوم به فوكوزاوا يوكيتشي وشيبوساوا إيئتشي وغيرهم منذ نهاية عصر إيدو. ولو لم يكن لدى السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة القدرة على التحرك للانتقال بشكل فوري للتنفيذ، لما كان من الممكن تحقيق مثل هذا الشيء.
التعرف على الحضارة الغربية
بعثة إيواكورا، التي تم إرسالها في أوائل عصر ميجي، تُعد نموذجًا بارزًا لكيفية تعامل الدول مع الحاجة الملحة للتحديث والتطور عبر استيعاب ودمج المعرفة الخارجية. هذه البعثة لم تكن مجرد رحلة دبلوماسية تقليدية، بل كانت مهمة شاملة لاستكشاف وفهم جوانب متعددة من الحضارة الغربية بطريقة منظمة وممنهجة. الجهود المبذولة لتحديد موضوعات البحث مسبقًا وتقسيم الوفد إلى مجموعات متخصصة تعكس النهج الاستراتيجي والعملي الذي اتبعته اليابان في هذه البعثة.
التأثير الذي تركته هذه البعثة على التحديث الياباني لا يمكن التقليل من شأنه. من خلال زيارة 12 دولة وأكثر من 120 مدينة، تمكن الوفد من جمع معلومات واسعة حول النظم السياسية والإدارية، الأمور العسكرية والدبلوماسية، الاقتصاد والصناعة، التعليم، الدين، وحتى الجوانب الثقافية والترفيهية. هذا النهج المتكامل مكّن اليابان ليس فقط من فهم الحضارة الغربية بشكل شامل، ولكن أيضًا من تحديد العناصر التي يمكن دمجها في المجتمع الياباني لدفع عجلة التحديث.
اللقاءات مع القادة السياسيين، المستشارين، رجال الأعمال، والعلماء البارزين في كل بلد زاروه، أضافت بُعدًا آخر لهذه البعثة. فلم تقتصر على جمع المعلومات النظرية فحسب، بل كانت فرصة لبناء شبكات من العلاقات الدولية والحصول على فهم عميق للديناميكيات العالمية والتقنيات والإستراتيجيات الناجحة.
تجربة بعثة إيواكورا تشير إلى أهمية الانفتاح على العالم والاستعداد للتعلم من تجارب الآخرين في سياق التحديث والتطور الوطني. كما تُظهر كيف يمكن لنهج منظم وشامل أن يساعد في ترجمة الرؤى الجديدة إلى سياسات وإصلاحات عملية تسهم في تقدم الدولة وازدهارها.
جولة بعثة إيواكورا كانت بمثابة رحلة استطلاعية شاملة أتاحت لأعضائها فرصة فريدة للاطلاع على الوجهين الناصع والقاتم للحضارة الغربية. هذه الرحلة لم تقتصر على معاينة إنجازات الثورة الصناعية ومشاهدة التقدم التكنولوجي والصناعي المبهر فحسب، بل امتدت لتشمل التعرف على التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهت هذه الدول.
الاهتمام العميق بدراسة كل من الإنجازات والتحديات كان يعكس رغبة البعثة في فهم الحضارة الغربية بأبعادها كافة. من خلال زياراتهم لمختلف المصانع والمنشآت الصناعية، استطاعوا أن يقفوا على أسباب النهضة الاقتصادية والتكنولوجية التي شهدها الغرب. هذا الفهم لم يقتصر على مجرد الإعجاب بالتقدم الغربي، بل شمل أيضًا تقييم الآثار الاجتماعية المرتبطة بهذا التقدم، مثل قضايا الفقر والجريمة في لندن، والاضطرابات السياسية كالتي شهدتها باريس.
تجربة بسمارك والاستماع إلى وصفه لـ”مجتمع الغاب“ أضافت بُعدًا آخر لفهمهم حول كيفية إدارة الدول لمواردها وشعوبها في سياق التنافس الدولي. كما أن مرورهم بالدول العربية والآسيوية ومشاهدتهم للتأثيرات السلبية للاستعمار عزز من تقييمهم للحضارة الغربية بشكل أكثر توازنًا، مُدركين تمامًا للتكاليف الإنسانية التي يمكن أن ترافق النمو والتوسع الإمبريالي.
هذه الرحلة المعرفية المعقدة والمتعددة الأبعاد ساهمت في تشكيل رؤية اليابان نحو التحديث، مستلهمة الأفكار والتقنيات الغربية مع الحرص على تجنب الأخطاء والمشاكل التي رصدوها. إن تجربة بعثة إيواكورا تُعد بمثابة درس في أهمية الانفتاح على تعلم واستيعاب الأفضل مما تقدمه الثقافات الأخرى، مع الوعي الكامل بالتحديات التي قد تواجهها الأمم في طريقها نحو التقدم والازدهار.
اكتشافات بعثة إيواكورا حول النظم السياسية والروحية في الغرب قدمت لهم رؤى معقدة حول كيفية تطوير اليابان. تعلموا أن النظام السياسي لكل دولة كان متأصلًا بعمق في تاريخها وثقافتها وظروفها الخاصة، مما يعني أنه لا يمكن تقليد نموذج سياسي بعينه دون مراعاة السياق الياباني الخاص.
الفكرة المقترحة بالسير على خطى ألمانيا في بادئ الأمر، بتبني نموذجها السياسي والإداري، مع النظر في النموذج البريطاني لاحقًا، تعكس الرغبة في الجمع بين الكفاءة الإدارية والتقدم التكنولوجي مع الحفاظ على نظام ديمقراطي قوي. هذا التوجه يُظهر فهمًا عميقًا للتحديات التي تواجهها اليابان في سباقها نحو التحديث والتطور، مع الوعي بأن التغيير يجب أن يكون تدريجيًا ومدروسًا لضمان استدامته.
من ناحية أخرى، فإن الصدمة التي أثارتها الديانة المسيحية كدعامة روحية للحضارة الغربية تعكس التفكير العميق في الأسس الروحية للتطور الاجتماعي والأخلاقي. التساؤل حول إمكانية إيجاد بديل للديانة المسيحية في اليابان يشير إلى الاعتراف بأهمية القيم الروحية والأخلاقية كجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع، والدور الذي تلعبه في تحفيز الاجتهاد وتعزيز التماسك الاجتماعي.
هذا التحدي الثقافي والروحي يعكس البحث عن هوية يابانية متميزة تتماشى مع التقاليد والقيم الوطنية، مع الاستفادة من الإنجازات والتقدم الذي شهده الغرب. إنه يدعو إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على القيم التقليدية والانفتاح على الأفكار والممارسات الجديدة التي يمكن أن تسهم في تطور اليابان وازدهارها.
تحديد توجهات اليابان
رحلة بعثة إيواكورا لم تكن مجرد مهمة دبلوماسية أو استكشافية، بل كانت بمثابة ”معسكر تدريبي“ متقدم للمفكرين والسياسيين اليابانيين، حيث تبادلوا الأفكار وتعلموا من الثقافات الأخرى، ومن بعضهم البعض، بشكل مكثف. هذه التجربة المشتركة أسست لفهم معمق للتحديات التي تواجهها اليابان وكيفية مواجهتها من خلال الإصلاحات الداخلية والتحديث المستنير.
على الصعيد الوطني، كان للبعثة تأثير كبير في توجيه السياسات الداخلية والخارجية لليابان. بعد عودتهم، عمل أعضاء البعثة الرئيسيون على تغيير مسار السياسة من الطموحات الاستعمارية، مثل ”غزو كوريا“، إلى تركيز الجهود على التطوير الداخلي والتحديث. هذا التحول يعكس نهجًا استراتيجيًا يهدف إلى بناء أساس قوي للدولة اليابانية قبل السعي لتوسيع نفوذها خارجيًا.
إعادة التأكيد على ”الروح اليابانية ذات المعرفة الغربية“، التي نادى بها مفكرون مثل ساكوما شوزان ويوكوي شونان، تعكس الرغبة في تحقيق توازن بين الحفاظ على القيم والتقاليد اليابانية واعتماد التقنيات والأفكار الغربية التي يمكن أن تساهم في تطور اليابان. هذا التوجه يؤكد على أهمية بناء القوة الاقتصادية والعسكرية وزيادة الإنتاج الصناعي كأساس لاستقلال اليابان ونجاحها كدولة متطورة.
في مرحلة ما بعد بعثة إيواكورا، شهدت اليابان تغيرات جذرية في هيكلتها السياسية والاجتماعية. إيتو هيروبومي، أحد الأعضاء البارزين في البعثة، لعب دورًا محوريًا في وضع دستور ياباني يضمن مكانة الإمبراطور كمحور رئيسي للدولة، مستلهمًا الإلهام من النماذج الإمبراطورية والنصائح الأوروبية التي تؤكد على أهمية التقاليد اليابانية. هذا النهج يعكس رؤية البعثة للتحديث مع الحفاظ على الهوية الوطنية، ويبرز كيف تمكنت اليابان من تكييف الأفكار الغربية لتلائم ثقافتها وتقاليدها الفريدة، مؤسسة بذلك لنهضتها كقوة عالمية.
أعضاء البعثة التي قادت حداثة اليابان
كان الهدف الأول لدولة ميجي هو تأسيس ”دولة مستقلة“، وكان الإجراء الأساسي من أجل تحقيق ذلك هو تعديل معاهدة عدم المساواة التي تم توقيعها في نهاية عصر إيدو. ومن أجل القيام بذلك، كان تحديث اليابان، بما في ذلك تطوير التكنولوجيا الصناعية وتحسين النظام القانوني وغيره، ضروريا قبل أي شيء آخر. ومن أجل القيام بهذه التغييرات قام أعضاء البعثة والطلاب المرافقين لها بالعمل بشكل رئيسي تحت قيادة أوكوبو وإيتو. ولكن مع المضي قدما في إدخال الثقافة الغربية، فإنهم لم ينسوا أنه من المهم الحفاظ على العادات والتقاليد اليابانية.
في قطاع زيادة الإنتاج الصناعي عمل دان تاكوما على تحديث مناجم الفحم، وقام أوشيما تاكاتو بتطوير مناجم الذهب والفضة والنحاس. وفي العلاقات الدبلوماسية قام هاياشي تاداسو سفير اليابان لدى بريطانيا بتوقيع اتفاقية مشتركة مع بريطانيا، وعمل كانيكو كينتارو على إنهاء الحرب اليابانية الروسية سلميا، وشارك ماكينو نوبوأكي في مؤتمر فرساي بكامل الصلاحيات. وفي السياسة الداخلية قام ياسوبا ياسوكازو بتولي منصب المحافظ في بعض المحافظات، وقام تاناكا ميتسوأكي بتولي منصب وزير البلاط الإمبراطوري. وفي التعليم عمل تاناكا فوجيماروعلى تطبيق النظام التعليمي وسن قانون التعليم، وقام يامادا أكيوشي بتأسيس مدرسة القانون الياباني (جامعة نيهون لاحقا)، وقام نيجيما جو بتأسيس جامعة دوشيشا، وقامت تسودا أوميكو بتأسيس مدرسة اللغة الإنجليزية للبنات (جامعة تسودا جوكو لاحقا). وفي الصحافة قام فوكوتشي غينئيتشيرو بنشاط في صحيفة طوكيو نيتشي نيتشي. وفي الطب قام ناغايو سينساي وغيره بنشر أفكار النظافة العامة.
وعمل إنوي كواشي على إقرار الدستور الإمبراطوري الذي يعتبر العمود الفقري للأمة، وإقرار المرسوم الإمبراطوري الخاص بالتعليم. ولا يجب نسيان كومي كونيتاكي الذي قام بتوثيق هذه الرحلة النادرة عالميا في خمس مجلدات تحت عنوان ”الذكريات الفعلية لجولة أمريكا وأوروبا“. ويعد هذا الكتاب دليلا كبيرا على المستوى الفكري ومستوى التعليم لدى اليابانيين في ذلك الوقت. وتمت ترجمته إلى الإنجليزية في هذه الأيام، وأصبح بمثابة نصب تذكاري لمذكرات الاطلاع على الحضارة الغربية.
جيل تأسيس عصر ميجي الذي شعر بالغرابة لطريقة الحكم بالقوة
في السنين الأولى لعصر ميجي فوجئ الجيل المؤسس لحداثة اليابان بمدى ملائمة الحضارة الغربية، وعمل على تبنيها. ولكنه لم ينسجم مع التفكير الساعي إلى الربح بجشع. لأن ذلك يختلف عن قيم القناعة والاكتفاء الذاتي لدى الشرق، وكان يسعى إلى الحكم عن طريق القوة، وليس عن طريق الفضيلة. ولكن مع الأسف، مع ظهور الجيل التالي تأثر بشكل كبير بمثل تلك الأفكار الغربية. وسارت اليابان في مسار التحول إلى دولة عسكرية، إلا أنها تخلت عن ذلك التفكير بعد الحرب العالمية الثانية، وقبلت دستور السلام، وحافظت على التخلي عن الحرب كسياسة وطنية حتى يومنا هذا.
لقد تبنت اليابان كلا من الحضارة الصينية التي تمتلك 5000 عام من التاريخ، والحضارة الغربية التي ترجع إلى الحضارة الإغريقية الرومانية وكلاهما من الحضارات الإنسانية العظيمة، وتم دمجهما مع الفكر الياباني القديم الذي يحترم الطبيعة (الشيندو)، وتم تأسيس ”الحضارة اليابانية“. وفي ظل انتشار الثقافة الغربية في جميع أنحاء العالم في الوقت الحالي، يتم توارث الوئام والاحترام تجاه الإمبراطور حتى يومنا هذا. وهذه هي طريقة العيش التي سعى جيل تأسيس ميجي فعلا لتحقيقها، وليست إلا القيمة الوجودية لليابان في القرن الحادي والعشرين الذي تتقدم فيه العولمة.
(النص الأصلي باللغة اليابانية، صورة العنوان: الأعضاء الرئيسيون في بعثة إيواكورا. من اليسار كيدو تاكايوشي (نائب رئيس البعثة)، ياماغوتشي ماسوكا (نائب رئيس البعثة)، إيواكورا تومومي (سفير فوق العادة)، إيتو هيروبومي (نائب رئيس البعثة)، أوكوبو توشيميتشي (نائب رئيس البعثة). تم التقاط الصورة في سان فرانسيسكو (مكتبة الوثائق التاريخية في محافظة ياماغوتشي)