الاختباء خلف قناع الحياة الطبيعية الزائف في اليابان

مجتمع

سايتو ساتورو [نبذة عن الكاتب]

يناقش الطبيب النفسي سايتو ساتورو ظاهرة خلل عقلي تتسبب في عسر قراءة لدى الشخص والتعثر بالتعريف أو التعبير عن عواطفه نتيجة إجباره نفسه على الظهور أمام الآخرين بشكل طبيعي. ويلفت الطبيب الانتباه لذلك من خلال خبرته المهنية الشخصية وكذلك من سرد رواية ”كومبيني نينغين“ (أشخاص الكومبيني) للكاتبة موراتا ساياكا والتي حازت بموجبها على جائزة ”أكوتاغاوا“ لعام ۲٠١٦.

قناع الحالة الطبيعية

كما وأنني أمارس الطب النفسي في وسط طوكيو مما يضعني في اتصال مباشر بشكل يومي بأشخاص يعانون من الاكتئاب والتوهم المرضي. مع العلم بأنّ أغلبهم لا يبدون أي إشارة تدل عن ألم أو حزن حين ألتقي بهم لأول مرة لذا كان يتّوجب عَلَّي أولاً تقشير غلاف الحالة الطبيعية التي يحاولون إظهارها كقناع يضعونه، قبل العثور على ما يحتاج العلاج لديهم.

غلاف رواية ”كومبيني نينغين“ (تصوير بونغيه شونجوو)

وقد راودني ذلك حينما قرأت رواية ”كومبيني نينغين (أشخاص الكومبيني)“ للكاتبة موراتا ساياكا والتي فازت مؤخرا بجائزة أكوتاغاوا المرموقة. وهي من دون أدنى شك قصة شخص يعاني من اليكسيثيميا حيث تدور القصة حول البطلة كوكورا كيكو التي تعمل كموظفة غير منتظمة بنفس متجر الكومبيني لمدة ١۸ عام. ويتم سرد الرواية من وجهة نظر البطلة فقد تعلمت تمضية حياتها عن طريق كبت مشاعرها والحكم على الأمور، مستعيضة عن ذلك بخلق مزيج شخصي خاص بها عن طريق تقليد إيماءات وأذواق السيدات المحيطات بها - زميلاتها بالأساس - والتي تعتبرهن لطيفات وأنيقات وهذه طرق مفيدة وفعالة للتأقلم مع محيطها. وفي تلك اللحظة التي تضع الزي الموحد الخاص بمكان العمل قبل برهة من بدء العمل، تتحول كيكو إلى ”عاملة بمحل الكومبيني“ فقد كان كل ما يجب عليها عمله تمضية ساعات الدوام مستعينة بإتقانها الآداب والأحكام المطلوبة لأداء هذا الدور. فبالنسبة للبطلة - التي تتلقى توبيخ من مدرسي مدرستها وتحسر والديها على سلوكها الطفولي الغريب - يمثل زي العمل الرسمي نجدة لها لكي تختبئ خلفه.

ولكن عندما تؤلمها الأحاسيس بما قد يبديه الآخرين من شفقة تجاهها كونها عزباء بعد ١۸ عاما من العمل بالكومبيني، كانت كيكو تشعر بالضيق. تقابل كيكو زميلاً جديداً بالعمل يمثل مرآة لذاتها. لدى هذا الرجل قناعة بأنه تعرض للتعذيب والإقصاء من قبل المجتمع وليس لديه أي نية لمحاولة التظاهر بآنه طبيعي. وبعد أن يتم طرده من العمل بعد وقت قصير، تدعوه كيكو للسكن معها. وبينما يبدوا كزوج متناسب على السطح، فإنه ليس لدى أي منهما في الواقع مشاعراً رومانسية تجاه الآخر لكن بالنسبة لكيكو المجتهدة في العمل، تتيح لها تلك العلاقة خداع الآخرين كما لو أن لديها رفيق. أما بالنسبة للرجل الذي ليس لديه أي رغبة في العمل، فتمثل كيكو درعاً يختبئ خلفه ليحمي نفسه من العالم القاسي. ومن ثم يخلو العيش مع هذا الرجل بإتزان حياة كيكو الخاصة التي أسستها طوال الـ ١۸عاما الماضية.

ولعل ملاحظات الرجل اللاذعة تفضح الحقيقة الكامنة خلف تلك الواجهة والتي حاولت دائما إنكارها أمام نفسها سيما وأنّ الإنكار يعد آلية - يحاول اللاوعي من خلالها تجاهل مشكلة أو موقف واضح لأي شخص أخر وهذا ما يعتبر حالة دفاع بدائية من الناحية النفسية والتي على الأغلب يبدو فيها الشخص الذي يحاول رفض مواجهة الواقع بشكله طفولياً وغريباً بالنسبة للأخرين.

وعندما وجدت نفسها في مواجهة حقيقتها، تركت كيكو عملها. ثم لم تجد أي شيء أخر تعمله غير الاستلقاء في فراش الفوتون الخاص بها لتمضية الوقت بعد أن كانت قد وضعته في خزانتها. وهذه حالة أسميها ”إدمان الفوتون“ والتي تقبع في أصل العديد من أنواع الإدمان بدءا من إساءة استخدام المواد المخدرة والكحول وصولا إلى إدمان الجنس. فالإدمان بأنواعه من جانب وارتداء قناع ”الحالة الطبيعية“ من جانب آخر هما في الحقيقة محاولات يائسة للهروب من هذا الفراغ أو التخبط العاطفي.

وهكذا تنتهي الرواية بشكل ”سعيد“، بعودة كيكو لعملها بمتجر الكومبيني. ولكن الكتاب يترك القراء بإحساس مزعج وبحيث يجعل من محاولاتهم الخاصة للتأقلم مع مكان العمل، تماما مثل محاولات كيكو، وضع قناع لإخفاء معنى الفراغ العاطفي الذي يشعرون به بداخلهم.

الصفحة التالية: فقد البصيرة بالعواطف

كلمات مفتاحية

المجتمع الياباني هيكيكوموري الصحة النفسية

سايتو ساتوروSAITŌ Satoruعرض قائمة المقالات

تخرج من كلية الطب بجامعة كيئو عام ١٩٦٧. ودرس في باريس بمنحة من الحكومة الفرنسية وكان مديرا لقسم الطب النفسي بمركز كوريهاما للطب وعلاج الإدمان قبل أن يشغل منصب رئيس معهد وظائف الأسرة في سبتمبر/ أيلول ١٩٩٥. يعمل الأن كمدير لعيادة سايتو وكرئيس الجمعية اليابانية لدراسات السلوك الإدماني. وهو مؤلف عدة كتب منها إيزونشو تو كازوكو (الإدمان والأسرة)، أدالتو تشيلودورين تو كازوكو (الأطفال البالغين نفسيا والأسرة) إلخ. أخر كتبه ”دوكوأويا“ نو كودوموتاتشي إيه (إلى أطفال الآباء السامين).

مقالات أخرى في هذا الموضوع