اليابان بين الطبيعة والإنسان
ثقافة تاريخ اليابان سياحة وسفر- English
- 日本語
- 简体字
- 繁體字
- Français
- Español
- العربية
- Русский
في كتابه ”Fudo“ أو ”المناخ“ الذى أصدره عام ١٩٣٥، أرجع المفكر الياباني Watsuji Tetsuro (واتسوجى تتسرو ١٨٨٩-١٩٦٠) التنوع الثقافي في العالم إلى تأثير الطبيعة في الأقاليم المناخية، وتأثير ذلك الاختلاف على نمط الحياة وتكوين الوعي الثقافي للإنسان فيها، وبالتالي على رؤيته للعالم.
وقد يبدو هذا جلياً في تفسير الإنسان للظواهر الطبيعية والكونية من حوله منذ القدم، ويرسخ في معتقداته ويحدد علاقته مع الطبيعة والكون.
وفى اليابان التي تقع في الأقاليم شديدة الاخضرار التي تنعم بأمطار وفيرة ورطوبة عالية، يعيش الإنسان فيها كجزء منها، تسهم الطبيعة في تشكيل البنية الروحية للإنسان الذى لا يحتاج لأن يتصارع معها ليقهرها أو تقهره كما هو الحال في القارة الأوربية ولا يستطيع الحياة فيها إلا فى قبائل تتآلف حيناً وتتصارع أحياناً من أجل الحصول على الماء والطعام، وهو صراع من أجل البقاء، مثل طبيعة الصحراء العربية.
الشخصية اليابانية والتأثر بالطبيعة
عاش الإنسان على الجزر اليابانية ينعم بكل ما تمنحه له الطبيعة، وكان كل مايبذله من جهد هو للحفاظ عليها والحرص على بقاء مواردها، واتقاء غضبتها. أحبها وخاف من غضبها وثورتها، فأقام لها طقوساً تظهر ذلك الحب والامتنان لكل مظاهرها من جبال وبحار وغابات وأنهار والأحجار والنار، حتى الشمس والقمر، ولاتقاء غضبها الرعد والبرق والزلازل والبراكين والأعاصير، أيقن الإنسان الياباني منذ القدم أن كل مظاهر الطبيعة وظواهرها هي هبة من الخالق الأعظم، لا يملك حيالها إلا أن يقدسها، إذ رأى أن لكل منها روحاً مثل روحه، فأطلق عليها لفظ ”Kami“، والتي ترجمها الغربيون إلى ”God“، لكنها -إن أردنا الصواب- أقرب فى مفهومها إلى الكلمة العربية ”آية“. فقد علم أنها تفوق قدراته فلا يستطيع محاكاتها أو أن يصنع مثلها، بل أن حياته واستمراروجوده قائم عليها.
وقد قامت عقيدة ”الشنتو“ القديمة على هذا المفهوم، بل رأت في الإنسان مسؤولاً عن الكون فوضعته موضع من ينوب عن ”الآلهة“ في الحفاظ على الطبيعة والتعايش معها، بل إن ما حواه كتاب ”كوجيكى“ (٧١٢ م) من أساطير جعلت الآلهة تهبط إلى الجزر اليابانية لتعيش عليها ويكون لها أبناء وأحفاد من البشر، إلا أنها احتفظت للبيت الإمبراطوري بنقائه العرقي، إذ جعلت من الإمبراطور التجسيد البشرى لسلالة إلهة الشمس، فنظم الشعب الياباني كله في منظومة كونية تجمع البشر على أرض الجزر اليابانية بعالم ميتافيزيقي تختفى فيه أرواح الأجداد بعد فناء الأجساد، ويتجاور فيه عالم الأموات مع العالم المرئي المعاش، فالإنسان بعد الموت لا يبتعد عن عالم الأحياء، بل يختفى فقط عن أعينهم فلا يرونه، لكنه يراهم وتحوم روحه بالقرب منهم. فالموت ليس نهاية العالم، وإنما امتداد له في عالم آخر قد يكون أفضل.
وكغيرها من المعتقدات في بيئات ثقافية وطبيعية مختلفة، تم توظيف تلك المعتقدات الشنتوية واستخدامها للتأثير على فكر الإنسان الياباني وتشكيل وعيه في فترات تاريخية مؤثرة، أعيدت فيها صياغة المجتمع الياباني. ولعل من أبرز تلك الفترات وأهمها، بل وأقربها إلى الذاكرة القومية هي تلك الفترة الانتقالية التي سبقت قيام الدولة الحديثة، حيث أستدعى قدوم أسطول الأدميرال برى إلى السواحل اليابانية عام ١٨٥٣م، مطالباً بفتح الموانئ أمام سفنه، فكرة إعادة البيت الإمبراطوري إلى الصدارة ، والمطالبة بسقوط حكومة الساموراى الذين تبوأوا السلطة قرابة سبعة قرون، ليأتي عصر ”ميجى“ ويصير البيت الإمبراطوري هو المرجعية لأول دستور ياباني في العصر الحديث عام ١٨٩٠م.
عصر ميجي والتوجيه الأيديلوجي
اهتمت حكومة ”ميجى“ الحديثة ببناء الوعى القومي للإنسان الياباني بتوجيه بعض تلك الأفكار والمعتقدات لإذكاء نزعات التميز عن غيره من البشر كونه من سلالة الآلهة، بل إن الإمبراطور نفسه هو التجسيد الحى للآلهة، ولذلك كان على اليابانيين حمل رسالة إعمار الأرض التي صنعها أسلافهم -كما أخبرتهم الأساطير- إلى كل البشر لأنهم أعلم بها من غيرهم. واستخدمت تلك الأفكار كذريعة ومبرر لغزو الجيوش اليابانية لبعض الأقاليم في القارة الآسيوية، حيث كان الاستهجان والمعارضة من المثقفين والعقلاء من اليابانيين للسياسات العسكرية اليابانية في القارة، لكن القمع الأمني مستتراً وراء تلك الإثارة للنزعات العقائدية القديمة وعمل على ترسيخها في وجدان الناس. استمر ذلك التسييس للمعتقدات الروحية حتى الحرب العالمية الثانية، لنرى الهجمات الانتحارية التي كان يقوم بها شباب الطيارين عندما لم يكن يكفيهم الوقود في طائراتهم للعودة، فيفضلون الموت بالاصطدام بسفن الأعداء على أن يقعوا فى الأسر، فعالم الموت ليس بعيداً أو منعزلاً، بل هو في الجوار، قريب من عالم من يحبونهم، وستحوم أرواحهم حوله كما تقول لهم التفسيرات للمعتقدات القديمة.
نهاية الحرب والتخلص من الانحياز العقائدى
لم تتخلص تلك المعتقدات الصافية من تلك الاتجاهات السياسية إلا بعد الهزيمة العسكرية للجيوش اليابانية في الحرب العالمية الثانية، وإعلان دستور جديد يحظر على الدولة التحيز لأي عقيدة أو دين، فعادت الحياة مرة أخرى إلى الطبيعة في قلب الإنسان الياباني صافية معطاءة كما كانت، لا يهدده حبه لها وعيشه بينها بتبني أفكار تهدم الطبيعة وتقتل الإنسان في أماكن أخرى.
عادت الاحتفالات والكرنفالات الشعبية في القرى احتفالاً بوفرة المحاصيل في مواسم الحصاد، واحتفالات الصيادين بآلهة البحار، وازدانت الأشجار المعمرة العتيقة في مزارات الشنتو بالمدن والجبال بقصاصات الأوراق البيضاء ملفوفة على جذوعها تعلن احترام الإنسان وتقديسه لها، حتى تلك الصخور الكبيرة في الخلجان بالقرب من الشواطئ، تزدان أيضا بنفس القصاصات، ومازالت المياه تنساب نقية في الجداول والأنهار، رغم التقدم الصناعي المذهل الذى حققته اليابان في النصف الثاني من القرن الماضي، وما نتج عنه من تلوث الهواء والماء، وما ألحقه بالإنسان من أضرار وكوارث صحية، إلا أن إعادة تشكيل الوعى لدى المواطن الياباني، أعاد الحياة مرة أخرى للطبيعة الساحرة وعاد الإنسان مرة أخرى في منظومة الحياة وبين آياتها، ولتكون ”إعادة بناء الإنسان“ هي معجزة اليابان الحديثة والمعاصرة.
(المقالة الأصلية بالعربية في ٤ مارس/ آذار ٢٠١٣)