فن الطهي الياباني: مطاعم رامن في طوكيو تدخل قائمة ميشلان

طريق طويل للحصول على نجمة ميشلان

لم يكن الرامن مجرد طبق شعبي مفضل في اليابان، بل أصبح رمزًا للتميز في عالم الطهي العالمي بعد دخوله قائمة دليل ميشلان المرموق. كيف استطاع وعاء بسيط من النودلز، لا يتجاوز سعره عادة 1000 ين، أن يحتل مكانة مرموقة بجانب المطاعم الفاخرة التي تقدم وجبات بأسعار باهظة؟

بدأ دليل ميشلان، الذي أُطلق في فرنسا عام 1926 لتقييم المطاعم الراقية، بتوسيع اهتمامه نحو آسيا مع إصدار دليل ميشلان طوكيو في عام 2007. رغم ذلك، لم يدخل الرامن قائمة ميشلان إلا في عام 2014، ضمن فئة بيب غورماند التي تُكرم المطاعم التي تقدم جودة استثنائية بأسعار معقولة. وكان مطعم ”آوبا“ في منطقة ناكانو بطوكيو أول مطعم رامن يحصل على هذا التقدير، بفضل وصفته الفريدة التي تعتمد على مرق مصنوع من المأكولات البحرية وعظام الخنزير.

لاحقًا، انضم مطعم ”رامن ياماغوتشي“ في منطقة تاكادانوبابا إلى القائمة، واستمر في الحفاظ على مكانته لمدة ست سنوات متتالية. وعلى مر السنوات، حصل ما يقرب من 22 مطعم رامن في طوكيو على جائزة بيب غورماند، مما يُظهر تنامي تقدير هذا الطبق التقليدي.

شهد عام 2015 لحظة تحول مهمة عندما حصل مطعم ”تسوتا“ (Japanese Soba Noodles Tsuta) على نجمة ميشلان، ليصبح أول مطعم رامن يدخل هذه الفئة الراقية. يقع المطعم في منطقة يويوغي أوهارا، واشتهر بأطباقه المميزة، مثل رامن صلصة الصويا، الذي كان يُقدم آنذاك بسعر معقول للغاية يبلغ 850 ين فقط.

منذ ذلك الحين، لم يعد الرامن يُعتبر مجرد طعام بسيط، بل أصبح نموذجًا يُحتذى به للتطور والابتكار في عالم الطهي، جامعًا بين نكهاته التقليدية وشغف الطهاة اليابانيين في تقديم الأفضل، حتى أمام أعين نقاد ميشلان.

مطعم تسوتا في تصميمه الراقي خلافاً لما هو معروف عن تصاميم مطاعم الرامن الأخرى. (© شركة تسوتانوتي)

أحد أعمدة ثقافة النودلز اليابانية

يعود الفضل في تأسيس مطعم ”تسوتا“ إلى الشيف أونيشي يوكي، الذي استمد إلهامه من تجربته المهنية السابقة في مجال صناعة الملابس وسفره المتكرر خارج اليابان. خلال رحلاته، أدرك أونيشي مدى التقدير الذي يحظى به المطبخ الياباني على الصعيد العالمي، ما أشعل في داخله طموحًا جديدًا: الارتقاء بالرامن الياباني، معزّزًا بمذاق الأومامي الغني، إلى مكانة عالمية تليق به.

كانت البداية متواضعة، حيث تعلم أونيشي فنون إعداد الرامن وأسراره على يد والده، الذي كان يدير مطعمًا بسيطًا للرامن. في عام 2012، افتتح مطعمه الصغير في منطقة سوغامو بطوكيو، والذي كان يتسع لتسعة مقاعد فقط. اختيار اسم ”تسوتا“ يعكس رؤيته بأن الرامن يستحق مكانة مساوية لأصناف النودلز اليابانية التقليدية الأخرى، مثل الصوبا والأودون، باعتباره جزءًا أصيلًا من الثقافة اليابانية.

لم يدخر أونيشي جهدًا في صقل مهاراته، إذ عمل بجد لإتقان فن إعداد الرامن وإضافة لمسته الخاصة. في عام 2014، أبدع الطبق الذي وضع مطعم تسوتا على الخريطة العالمية: رامن صلصة الصويا مع الكمأ الأسود. هذا الطبق، الذي يجمع بين بساطة المكونات وروعة النكهات، لم يكن مجرد إضافة مميزة لقائمة المطعم، بل كان شهادة على تفاني أونيشي في تحقيق الكمال. وبعد أربع سنوات فقط من افتتاحه، حصد مطعم تسوتا أول نجمة ميشلان تُمنح لمطعم يقدم الرامن، وهو إنجاز غير مسبوق في عالم الطهي الياباني.

هذا التكريم فتح أبواب الشهرة لمطعم تسوتا، حيث توافد عشاق الطعام من جميع أنحاء العالم لتجربة طبق الرامن المميز. وساهم هذا النجاح في تعزيز مكانة الرامن ليس فقط كطبق شعبي، بل أيضًا كرمز للابتكار والجودة في المطبخ الياباني، مما أدى إلى موجة شهرة عالمية لهذا الطبق.

كيف تمكن الرامن من شق طريقه إلى قائمة دليل ميشلان؟ رغم أن عملية الاختيار تظل سرية، إلا أن المعايير العامة للدليل تشمل:

جودة المكونات: استخدام مكونات طازجة وعالية الجودة.

مهارة التحضير: إتقان الطبخ وتوازن النكهات.

الإبداع: تقديم تجربة جديدة ومميزة للزوار.

الثبات: المحافظة على نفس مستوى الجودة في كل طبق يُقدم.

بفضل هذه المعايير، تمكن الرامن من الانتقال من كونه طعامًا شعبيًا بسيطًا إلى واحد من أرقى الأطباق التي تجد مكانًا لها بجانب المطاعم العالمية الفاخرة.

إرضاء أذواق عشاق الطعام الأكثر تميزاً

رامن تسوتا بصلصة الصويا مع طبق خاص تصل تكلفته إلى 3000 ين. (© ياماكاوا دايسوكى)

عند زيارة مطعم تسوتا، يُنصح بأن تبدأ تجربتك بتذوق طبق الرامن الأشهر لديهم: رامن صلصة الصويا الخاص. يتميز هذا الطبق بمرق غني ومعقد النكهات، يفيض بطعم الأومامي بفضل مزيج المكونات الفريد الذي يتضمن دجاجًا كاملًا، أعشابًا عطرية، ومحارًا، بالإضافة إلى كونبو (عشب البحر) ورقائق البونيتو. النتيجة؟ تجربة تذوق استثنائية تغمر الحواس.

يرافق هذا الرامن الفاخر لحم الواغيو الياباني من الدرجة A5، الذي يُعد على طريقة السوكياكي التقليدية، ما يمنحه قوامًا طريًا ونكهة غنية لا تُنسى. إلى جانب اللحم، تُضاف مكونات مختارة بعناية لتكمل الطبق، بينما يوفر المطعم صلصات محلية الصنع، مثل صلصة التوت الأسود والترافل، لتضفي أبعادًا جديدة على النكهات، إذا أراد الزوار التوسع في تجربتهم. وأكثر ما يلفت الانتباه هو التقديم الأنيق، حيث يمزج الرامن بين الأسلوبين الياباني والغربي في تناغم بصري وذوقي فريد.

ما يميز تسوتا لا يقتصر فقط على المذاق، بل يمتد إلى تغييره المفهوم السائد حول أسعار الرامن. في حين أن طبق الرامن التقليدي في اليابان لا يتجاوز عادةً 1000 ين، فإن أسعار تسوتا تعكس تركيزه على جودة المكونات الفاخرة وتقنيات التحضير المتطورة. هذا التوجه شكل صدمة بين عشاق الرامن الذين تعودوا على الأسعار المعتادة، ولكنه في ذات الوقت أحدث تحولًا في الثقافة المرتبطة بهذا الطبق الشعبي.

في عام 2019، انتقل مطعم تسوتا إلى حي يويوغي أوهارا، ومع هذا الانتقال جاء تحديث لقائمة الطعام، شمل ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار. على سبيل المثال، بلغ سعر الرامن العادي 1300 ين، بينما وصل أغلى طبق في القائمة إلى 3550 ين. هذا الارتفاع أثار جدلًا واسعًا، حيث أرجع البعض السبب إلى حصول المطعم على نجمة ميشلان، التي عززت مكانته العالمية وأثرت على تسعير أطباقه.

تجاوز تأثير تسوتا حدود مطعمه، إذ دفع قراره بتسعير الرامن إلى تغيير النظرة التقليدية التي كانت ترى الرامن كطبق ميسور التكلفة. اليوم، أصبح من الشائع العثور على مطاعم رامن تقدم أطباقًا بأسعار تتجاوز 1000 ين، ما يشير إلى بداية تحرر الطهاة من القواعد التقليدية في التسعير. هذا الاتجاه الجديد يعكس اعترافًا متزايدًا بقيمة المجهود المبذول وجودة المكونات في إعداد طبق الرامن، مما رفع مكانته إلى مستوى المأكولات الراقية.

مطعم تسوتا، برؤيته المبتكرة وشجاعته في كسر التقاليد، لم يكن مجرد مطعم رامن عادي، بل رمزًا لتحول ثقافي أتاح للرامن فرصة التألق في الساحة العالمية.

تألق نكهة أومامي في مطعم تانتان ناكيريو

نودلز مطعم ناكيريو بـ 1200 ين. (© ياماكاوا دايسوكى)

سارت العديد من المطاعم الأخرى على نهج مطعم تسوتا في رفع أسعار الرامن، خصوصًا تلك التي حصلت على نجمة ميشلان أيضًا. من أبرز هذه المطاعم سوساكو مينكوبو ناكيريو، الواقع في منطقة أوتسكا بطوكيو، والذي انضم إلى قائمة المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان في عام 2017 بفضل طبقه المميز نودلز تانتان.

يتميز طبق نودلز تانتان بطبقته الغنية من معجون السمسم وزيت الفلفل الحار، اللذين يتم إعدادهما يدويًا في المطعم، مما يضيف لمسة خاصة ومميزة. تطفو هذه الطبقة على سطح حساء بنكهة الصويا، مما يمنح النودلز نكهات متناغمة ومتعددة الأبعاد. الحساء نفسه يتميز بقاعدته المصنوعة من الدجاج، وعظام البقر، والخضروات، مع مكونات إضافية تُعزز النكهة مثل الخل الأسود وخل التفاح.

ورغم أن نودلز تانتان تعود جذورها إلى المطبخ السيشواني المعروف بنكهاته الحارة الجريئة، إلا أن مطعم ناكيريو يحرص على تقديم طبق يتناسب مع مختلف الأذواق. يتميز الطبق بحرارة خفيفة ومتوازنة تناسب الجميع، مع توفير فلفل سيشوان للراغبين في تعزيز النكهة الحارة وإضفاء جرعة إضافية من التوابل.

كما هو الحال مع تسوتا، يعكس ناكيريو التحول الذي يشهده الرامن في اليابان، من كونه طبقًا شعبيًا بسيطًا إلى وجبة راقية تستحق الاهتمام العالمي. ومن خلال التركيز على جودة المكونات ودقة التحضير، تمكن ناكيريو من إثبات أن الرامن يمكن أن يكون أكثر من مجرد طبق يومي، بل تجربة ذوقية استثنائية.

يشير نجاح هذه المطاعم إلى أن الرامن قد تجاوز حدوده التقليدية ليصبح جزءًا من المطبخ الياباني الرفيع. ومع ذلك، فإن هذا التحول يثير نقاشًا مستمرًا حول تأثير النجومية والتقدير العالمي على أسعار الأطباق، ومدى قدرتها على الحفاظ على جذورها الشعبية في مواجهة التغيير.

صوبا مطعم كونجيكي هوتوغيسو

طبق رامن بطعم الصويا صوص بمطعم كونجيكي هوتوجيسو يصل إلى 1300 ين. (© ياماكاوا دايسوكى)

انضم مطعم كونجيكي هوتوتوجيتسو للصوبا، الذي كان يقع في منطقة هاتاغايا قبل انتقاله إلى شينجوكو، إلى قائمة المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان في عام 2018، واستمر في الاحتفاظ بهذه النجمة لمدة خمس سنوات متتالية حتى عام 2022. يشتهر المطعم بتركيبته الفريدة من الأومامي، وهو واحد من المذاقات الأساسية الخمسة إلى جانب الحلو، المر، الحامض، والمالح. كلمة ”أومامي“ (旨味) في اللغة اليابانية تعني الطعم اللذيذ أو اللاذع، وهو طعم يعتمد بشكل أساسي على حمض الغلوتاميك (Glutamic Acid) الذي يُعتبر عنصرًا أساسيًا في العديد من الأطعمة مثل اللحوم، الألبان، الأجبان، الأسماك، والخضروات. ما يميز الأومامي أنه يُضفي توازنًا على بقية المذاقات، حيث يمتزج معها بسهولة ليخلق نكهة متجانسة ومتكاملة.

يعتمد مطعم كونجيكي هوتوتوجيتسو على مزيج معقد من ثلاثة أنواع من الحساء: مرق البط والدجاج واللحم البقري، ويضاف إلى هذا الخليط مرق محار الهاماغوري الغني بالنكهة والداشي الياباني التقليدي، مما يمنح أطباق النودلز طابعًا فريدًا يجمع بين الغنى والرقة والتعقيد في المذاق. هذا التوازن الدقيق بين المكونات المختلفة يبرز الطابع المميز لكونجيكي هوتوتوجيتسو، حيث يقدم تجربة تجمع بين الإبداع الحديث والعمق التقليدي، مما يجعله وجهة مثالية لعشاق الصوبا الذين يبحثون عن تجربة استثنائية تمزج بين الأصالة والتطور.واحدة من أبرز مميزات تجربة تناول الصوبا في هذا المطعم هي إضافة صلصة الكمأ الأسود الممزوجة بقليل من النبيذ الأحمر. يتم تقديم هذه الصلصة بشكل مبتكر، حيث توضع على الملعقة لتُضاف تدريجيًا أثناء تناول النودلز، ما يضفي نكهة غنية وعميقة تُبرز كل طبقة من النكهات في الحساء.

لم يتوقف مطعم كونجيكي هوتوتوجيتسو للصوبا عند إنجازه المتمثل في الحصول على نجمة ميشلان. بل استمر في تطوير نفسه والسعي لتحسين أطباقه. ففي مايو/أيار 2024، قام المطعم بتجديد قائمته بشكل كامل، مضيفًا نكهات أكثر قوة وتعقيدًا إلى أطباقه. وقد شمل هذا التجديد تغييرات في مكونات الأومامي، والمواد الدسمة، والنكهات الأخرى، مما يعكس التزامه المستمر بتقديم تجربة استثنائية لعشاق الصوبا.

من خلال المزج بين الابتكار والإبداع، أثبت كونجيكي هوتوتوجيتسو أن الصوبا يمكن أن تتجاوز كونها طبقًا يوميًا لتتحول إلى تجربة تذوقية متكاملة. هذا النهج يعزز مكانة النودلز اليابانية كجزء من المطبخ الراقي، ويُظهر كيف يمكن للأطباق التقليدية أن تُعيد اكتشاف نفسها في سياق عالمي.

مطعم جينزا هاتيشوغو غير التقليدي

صوبا تشوكا الخاصة من مطعم جينزا هاتشيغو بـ 1600 ين. (© ياماكاوا دايسوكى)

مطعم جينزا هاتشيغو، الواقع في حي هيغاشي جينزا، يمثل خاتمة قائمة المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان، حيث نال التكريم في عام 2021. وقد طور الشيف ماتسومورا ياسوو، الذي يمتلك خبرة تمتد لأربعين عامًا في المطبخ الفرنسي، وصفة مبتكرة ومتفردة للرامن جعلت المطعم مصدر إلهام للحرفيين الصاعدين في هذا المجال.

على عكس التقاليد الراسخة في مطاعم الرامن، والتي تعتمد على الكايشي (مزيج مركز من صلصة الصويا، الميرين، والسكر) لتحديد نكهة الحساء، اختار مطعم جينزا هاتشيغو كسر هذا القالب. يعتمد الحساء الخاص بالمطعم على تقنيات المطبخ الفرنسي، حيث يتم تحضيره من دجاج ناغويا كوتشين والبط، مع إضافة مكونات مثل الخضروات المجففة (فطر شيتاكي والطماطم) والبروسكيوتو لإضفاء نكهة مالحة فريدة.

والنتيجة هي حساء غني وسميك، بلون ذهبي ورائحة شهية، يقدم تجربة تجمع بين الأصالة اليابانية والإبداع الفرنسي. هذه التركيبة الفريدة تمنح النودلز نكهة معقدة وتبث شعورًا بالدفء والراحة في كل قضمة

على الرغم من أن المطاعم الأربعة المذكورة، والتي نالت نجمة ميشلان، تتركز في طوكيو، فإن هناك العديد من المتاجر الأخرى في مناطق اليابان المختلفة مدرجة في تصنيف بيب غورماند، وهو دليل ميشلان للمطاعم ذات الجودة العالية والأسعار المعقولة.

وفقًا لدليل ميشلان 2024، تضم طوكيو 19 مطعمًا للرامن ضمن قائمة بيب غورماند، تليها منطقة كانساي التي تحتوي على 17 مطعمًا. ومن أبرز المرشحين المحتملين للحصول على نجمة ميشلان في المستقبل:

مطعم ”رامن توهشي“ في شوغوكوين بمحافظة كيوتو، والذي تم إدراجه في قائمة بيب غورماند لثمانية أعوام متتالية.

مطعم ”موغي تو مينسوكي“ في ناكاتسو بمحافظة أوساكا، والذي يشتهر بطوابيره الطويلة من الزبائن بشكل يومي.

ساهمت هذه المطاعم في إعادة تعريف الرامن كمزيج بين الطبخ التقليدي والابتكار الحديث، مما أثر بشكل كبير على ثقافة الطعام الياباني. وبفضل هذه النجاحات، بات من الممكن رؤية المزيد من مطاعم الرامن تستهدف التصنيفات العالمية مع المحافظة على هويتها اليابانية الأصيلة.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان الرئيسي: رامن مطعم تسوتا بالصويا صوص. © ياماكاوا دايسوكى)