الولايات المتحدة واليابان: هل تصمد العلاقات الثنائية في عهد ترامب الجديد؟

سياسة

على مدار عقود، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان نموذجًا للاستقرار والشراكة الاستراتيجية، حيث لعبت دورًا محوريًا في تحقيق التوازن السياسي والاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ومع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تلوح في الأفق تحديات جديدة قد تهدد هذا التفاهم التاريخي، مثل سياسات الحماية التجارية المتوقعة وفرض تعريفات جمركية، إضافة إلى الضغوط الأمريكية المحتملة على اليابان لتشديد قيودها على الصادرات إلى الصين، شريكتها التجارية الكبرى. في هذا السياق، تُثار تساؤلات حول كيفية استعداد اليابان لمواجهة هذه التحديات والحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة دون المساس بمصالحها الوطنية والتوازن الذي نجحت في تحقيقه على مدى سنوات.

الاستعداد لقدوم ترامب

فاز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، بفضل تفوقه في جميع الولايات السبع التي شهدت منافسة شديدة – حتى وإن كان هذا بهامش ضيق في كل ولاية منها. بالإضافة إلى هزيمة المرشحة الديمقراطية ونائبة الرئيس كامالا هاريس في المجمع الانتخابي، فاز ترامب أيضًا في الاستفتاء الشعبي من خلال إضعاف مزايا الديمقراطيين في ”الولايات الزرقاء“ ذات الميول الديمقراطية. الآن، مع احتفاظهم بالأغلبية في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، أصبح من الواضح أن الجمهوريين يسيطرون على الأجندة السياسية.

لا شك أن فوز ترامب أدى إلى زيادة المخاوف بشأن مستقبل النظام الدولي. فخلال فترة ولايته الأولى، كانت إدارته تتجاهل القواعد والمعايير الدولية – لا سيما في مجال التجارة - على أساس أنها تتعارض مع المصالح الأمريكية. كما شكك الرئيس ترامب في التحالفات الأمريكية التي شعر أنها تفرض عبئًا غير متناسب على الولايات المتحدة وطالب الحلفاء بتكثيف جهودهم إذا أرادوا الاستمرار في التمتع بالدعم الأمريكي. كما كانت إدارة ترامب الأولى شديدة التردد عندما يتعلق الأمر بالتعاون الدولي في قضايا مثل حقوق الإنسان والبيئة. وفي انتظار عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تم اتخاذ إجراءات استباقية لتحصين أشكال مختلفة من التعاون الدولي ضد ما قد يتخذه ترامب من قرارات. على سبيل المثال، قامت اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة بتأسيس تعاون اقتصادي وأمني ثلاثي في ​​عام 2024. كما تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن أيضًا بتوفير التمويل المتعلق بالمناخ لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين الأخير (COP29).

لكن هناك شكوك حول ما إذا كانت مثل هذه الاتفاقيات ستقيد تصرفات ترامب بمجرد تنصيبه مرة أخرى.

بناءً على خطاب حملة ترامب وتصريحات الأعضاء المحتملين في حكومته، فإن إدارة ترامب الثانية ستكون أكثر عدائية تجاه الصين من الأولى. إذ ينتوي ترامب أن يمارس سياسات تميزه بشكل أكبر عن إدارة بايدن فيما يتعلق بقضايا الأمن الاقتصادي. ففي حين نفذ الرئيس بايدن ضوابط تصدير أشباه الموصلات، سيشدد الرئيس ترامب الضوابط على مجموعة أوسع من التقنيات، بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية. إلا أن هذا قد لا يسري على الصين فقط، فخلال الحملة الرئاسية الأخيرة، ذهب ترامب إلى حد اتهام تايوان بـ ”سرقة“ تكنولوجيا أشباه الموصلات من الولايات المتحدة وطرح إمكانية فرض رسوم جمركية على تايوان.

في الواقع، حدد ترامب مرارًا وتكرارًا استخدام الرسوم الجمركية كأداة دبلوماسية خلال حملته. على سبيل المثال، طرح إمكانية فرض تعريفة جمركية ثابتة بنسبة 60% على السلع الصينية. ولكن التعريفات الجمركية في نظر ترامب لا تهدف فقط إلى حماية أو تطوير الصناعات الأميركية، بل يمكن استخدامها كأداة عقابية لإجبار البلدان على التصرف بما يتماشى مع المصالح الأميركية على نطاق أوسع. على سبيل المثال، قال إنه سيفرض تعريفات جمركية بنسبة 200% إذا قامت الصين بغزو تايوان بالرغم من تجنبه اتخاذ موقف قوي داعم لتايوان. ويشير هذا إلى أن ترامب يدرك تمام الإدراك أن استخدام التعريفات الجمركية يمكن أن يكبّد البلدان الأخرى خسائر هائلة، لكن يبدو أنه لا يعي أن المستهلك الأميركي هو الذي سيدفع الفاتورة في نهاية المطاف بسبب زيادة تكاليف المستهلك.

تأثير التعريفات الجمركية على اليابان

كيف قد يؤثر فرض التعريفات الجمركية على العلاقات الاقتصادية الثنائية بين الولايات المتحدة واليابان؟ سيتم تطبيق التعريفات الجمركية التي يفرضها ترامب على السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة، وهذا يعني أنه كلما زاد حجم التجارة الثنائية مع أمريكا، كلما زاد التأثير المحتمل لسياسات التعريفات الجمركية.

يبلغ حجم تجارة اليابان مع الولايات المتحدة 151.6 مليار دولار، وهو ما يعادل الثلث أو أقل من حجم التجارة بين الولايات المتحدة وكل من الاتحاد الأوروبي (561.1 مليار دولار)، أو المكسيك (480 مليار دولار)، أو الصين (448 مليار دولار). وبالمقارنة بأجزاء أخرى من العالم، فإن التأثير الذي سيطال اليابان لن يكون كبيرًا لكنه في نفس الوقت لن يكون بسيطاً أيضاً. ولعل السبب في ذلك هو قيام الشركات اليابانية بنقل قواعد إنتاجها تدريجيًا إلى الولايات المتحدة في أعقاب الاحتكاكات التجارية التي حدثت بين الولايات المتحدة واليابان في الثمانينيات لإعادة التوازن إلى شروط التجارة. لذلك، فمن غير المرجح أن تؤثر سياسة التعريفات الجمركية واسعة النطاق بشكل كبير على الشركات اليابانية التي تنتج وتبيع السلع بالفعل في الولايات المتحدة.

إلا أن سياسات ترامب تجاه المكسيك قد تمثل إشكالية بالنسبة لليابان. فمع إقرار اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية في تسعينيات القرن العشرين، أصبحت التعريفات الجمركية بين الولايات المتحدة والمكسيك صفرية تقريبا. واستغلت الشركات اليابانية هذا الأمر، إلى جانب انخفاض تكاليف الإنتاج والعمالة في المكسيك، لتزويد مصانعها الأميركية بالأجزاء والمواد مما مكّن شركات تصنيع السيارات اليابانية، على سبيل المثال، من إنتاج منتجات بأسعار تنافسية للبيع المباشر في السوق الأميركية.

خلال إدارته الأولى، أجرى ترامب تغييرات كبيرة على العلاقات التجارية مع المكسيك عندما تفاوض على اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا لتحل محل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. ومن المقرر أن تخضع اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا للمراجعة في عام 2026، خلال ولايته الثانية. كثيرا ما زعم ترامب أنه طالما استمر تدفق المهاجرين غير الشرعيين والمخدرات والعناصر الإجرامية من المكسيك إلى الولايات المتحدة، فإنه يحتفظ بالحق في فرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على السلع المكسيكية. من غير الواضح ما إذا كان سيتخذ مثل هذا الإجراء بالفعل أم لا، لكن تأكيده المتكرر على هذه القضايا يشير إلى أنها تشكل أولوية أكثر إلحاحا لإدارة ترامب من ضمان استمرار التجارة الحرة عبر الحدود الجنوبية.

إن قيام إدارة ترامب ببناء ”جدار“ تعريفات جمركية مع المكسيك، سيكون بمثابة ضربة قوية للشركات اليابانية المصنّعة في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن هذا من شأنه إضعاف الاستثمار الياباني في السوق الذي تطورت اليابان فيه حتى أصبحت أكبر مستثمر أجنبي. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذا أمرا مفروغا منه في المستقبل، إذا تم تبني نهج أكثر تطرفا لفرض التعريفات الجمركية خلال إدارة ترامب الثانية.

بالتالي فإن المخاطر التي تهدد الاقتصاد الياباني لا تنشأ فقط من قضايا التعريفات الجمركية الثنائية، بل إن تأثير ترامب على العلاقات التجارية بين الدول الثلاث في أمريكا الشمالية من شأنه أن يغير العلاقات الأمريكية اليابانية وكذلك النظام الاقتصادي العالمي.

قوة الدعم الداخلي لترامب في مقابل ضعف الدعم الداخلي لإيشيبا

مع وضع ترامب للمصالح الأمريكية فوق القواعد والأعراف الدولية، فإن الدبلوماسية مع الولايات المتحدة ستصبح محفوفة بالمخاطر. يحب الرئيس الأمريكي المنتخب التأكيد على مهاراته التفاوضية، التي طورها خلال فترة عمله في مجال العقارات، باعتبارها نقطة قوته. وسيتعين على القادة الذين يسعون إلى التأثير على الرئيس أن يتبنوا موقفا متسقا وقويا قبل التعامل مع ترامب.

يعد موقف ترامب المحلي أقوى نسبيا مقارنة بما كان عليه خلال إدارته الأولى. ولكن هل سينجح ترامب في تحقيق أهدافه؟ فالأمر لا يقتصر على وجوده في البيت الأبيض، بل إن الكونجرس يخضع لسيطرة الجمهوريين، كما تتمتع المحكمة العليا بأغلبية محافظة قوية. وسوف يكون ترامب قادراً على التعامل مع المفاوضات بقدر كبير من التقدير والثقة في قدرته على تنفيذ وعوده، أو تهديداته. لكن الوضع في اليابان مختلف، حيث خسرت الأحزاب الحاكمة أغلبيتها في الانتخابات العامة التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول، والآن يحكم الحزب الليبرالي الديمقراطي وائتلاف كوميتو كحكومة أقلية. علاوة على ذلك، كان رئيس الوزراء إيشيبا شيغيرو منذ فترة طويلة منبوذا في الحزب الليبرالي الديمقراطي، ولديه قاعدة دعم داخلية ضعيفة نسبيا مما يعني أن إيشيبا عُرضة للهجمات من داخل وخارج الائتلاف الحاكم.

وهذا يتناقض مع الفترة الأولى لإدارة ترامب، عندما كان رئيس الوزراء شينزو آبي في السلطة. حيث لم يكن آبي مسيطراً على الأغلبية في مجلسي البرلمان فحسب، بل كان مدعومًا أيضًا من أقوى فصيل في الحزب الليبرالي الديمقراطي وكان بإمكانه عمومًا الاعتماد على وحدة الحزب عند تنفيذ سياسة الحكومة. أما الآن، فلا يتمتع إيشيبا بهذه الرفاهية، مما سيعيق قدرته على التفاوض بثقة مع ترامب.

بالإضافة إلى ذلك، على عكس فترة ولايته الأولى، فإن ترامب مستعد بشكل أفضل بكثير لفترة ولايته الثانية. حيث بدأ بالفعل في ترشيح المعينين لمناصب وزارية بوتيرة أسرع بكثير مما يفعله عادة معظم الرؤساء قبيل توليهم مناصبهم. كما أنه شرع أيضاً في الأنشطة الدبلوماسية المتعلقة بأولويات سياسته المستقبلية، مثل اجتماعه مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته. حتى أن ترامب يُظهر الزعامة في مجالات السياسة التي كان يعتمد فيها على كبار مستشاري الحزب الجمهوري خلال فترة ولايته الأولى.

من الواضح أن ترامب في وضع محلي أقوى بكثير داخل الولايات المتحدة من وضع إيشيبا في اليابان. وهذا يعني بدوره أن ترامب من المرجح أن تكون له اليد العليا في المفاوضات الثنائية، ومن غير المرجح أن يأخذ مصالح اليابان في الاعتبار. ومن المحتمل جدًا أن يدفع نحو سياسات تضع المصالح الأمريكية في المقام الأول حتى على حساب العلاقات الأمريكية اليابانية. والسؤال هنا، كيف يمكن لرئيس الوزراء إيشيبا أن يدافع بقوة عن مصالح اليابان عندما يواجه البيت الأبيض في السنوات القادمة.

من الواضح أن اليابان تقف أمام تحديات جيوسياسية واقتصادية معقدة، تفرض عليها إعادة تقييم علاقاتها مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين. فمع تصاعد التوترات بين واشنطن وبكين، تتعرض طوكيو لضغوط متزايدة للانحياز إلى أحد الجانبين، وهو ما قد يحمل مخاطر كبيرة على استقرارها الاقتصادي وأمنها القومي.

تُظهر السياسات التي اتبعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كيف يمكن للولايات المتحدة استخدام أدوات الأمن الاقتصادي، مثل فرض قيود على الاستثمار الأجنبي أو التعامل مع اليابان كدولة معادية في حال تعارضت مصالحها مع الخط الأمريكي. حادثة فشل استحواذ شركة نيبون ستيل على شركة يو إس ستيل تُعد مثالًا حيًا على مثل هذه الأدوات، التي يمكن أن تُستخدم مستقبلًا لتعزيز النفوذ الأمريكي في مواجهة المواقف اليابانية.

وفي ظل هذه التحديات، تبدو الحاجة ملحة أمام طوكيو لتطوير نهج جديد في سياستها الأمنية الاقتصادية. فبدلًا من أن تكتفي بالتعامل مع الصين كخطر جيواقتصادي، قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الولايات المتحدة بنفس المنطق، خاصة إذا استمرت السياسات الأمريكية في ممارسة ضغوط تهدد المصالح الاقتصادية اليابانية.

لذلك، من الضروري أن تبدأ اليابان في وضع استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية وتعزيز قدراتها الذاتية في مواجهة أي مخاطر جيواقتصادية محتملة. يمكن أن يشمل ذلك تقوية العلاقات مع دول آسيا والمحيط الهادئ الأخرى، وتعزيز الابتكار التكنولوجي المحلي لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة أو الصين، والبحث عن آليات جديدة للحفاظ على توازن القوى بما يخدم المصالح اليابانية.

إن إدراك اليابان لدور الولايات المتحدة في سياساتها الأمنية الاقتصادية واتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع هذه الديناميكيات المعقدة سيكون أساسيًا لضمان استقرارها على المدى الطويل، بعيدًا عن أي تهديدات قد تعيد تشكيل ميزان القوى في المنطقة.

(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: رئيس الوزراء الياباني إيشيبا شيغيرو، على اليسار، والرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب. © رويترز)

اليابان الولايات المتحدة ترامب