من الحلم إلى الواقع: رحلة إندونيسيا نحو الريادة العالمية بحلول 2045

اقتصاد

في عالم تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية بشكل غبر مسبوق، قد يرى البعض أن اتفاقيات التجارة الحرة لم تعد لها أهمية كبيرة. لكن إندونيسيا لها رأي آخر حيث تسعى جاهدة إلى إبرام عدة اتفاقيات تجارية مع مختلف دول العالم، فضلاً عن تقدمها بطلب رسمي للانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، والمعروفة باسم الشراكة العابرة للمحيط الهادئ TPP. فما هو السبب وراء سعي إندونيسيا الحثيث للانضمام إلى هذه الاتفاقية وهل تكلل مساعيها بالنجاح.

مع اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، تركز قدر كبير من الاهتمام على رابطة دول جنوب شرق آسيا في كفاحها للحفاظ على موقف الحياد. وتحظى إندونيسيا باهتمام اقتصادي وجيوسياسي خاص، حيث يمثل عدد سكانها ما يقرب من نصف إجمالي سكان دول رابطة جنوب شرق آسيا مجتمعة وبالتالي نصف ناتجها المحلي الإجمالي. على الرغم من كونها عضوًا في مجموعة العشرين، فقد رسمت إندونيسيا مسارها الخاص، والذي يختلف عن مسار الهند، على سبيل المثال. ففي سبتمبر/ أيلول 2024، تقدمت إندونيسيا بطلب رسمي للانضمام إلى اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، والمعروفة باسم الشراكة العابرة للمحيط الهادئ TPP.

كيف يمكننا تفسير مسعى إندونيسيا للحصول على عضوية في اتفاقية التجارة الحرة رفيعة المستوى هذه، وهل ينبغي الترحيب بمسعاها هذا أم لا؟

إندونيسيا تنفتح على العالم

قد يتساءل البعض عما إذا كانت اتفاقيات التجارة الحرة لا تزال تلعب دورًا ذا مغزى في هذا العصر الذي يتسم بتصاعد التوترات الجيوسياسية. لكن العديد من الحكومات في الجنوب العالمي - وهي الفئة التي تغطي معظم دول العالم - لا تزال حريصة على تحرير التجارة والاستثمار من أجل الاستفادة من قوة العولمة وتسريع التنمية الاقتصادية. فإندونيسيا، على سبيل المثال، عازمة على الانضمام إلى صفوف الدول المتقدمة صناعيا بحلول عام 2045. وفي فبراير/ شباط 2024، دخلت في مفاوضات بشأن الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تحدد المعايير التي يتم بموجبها تصنيف اقتصادات العالم على نطاق واسع. وكجزء من سعيها لتحقيق النمو والتنمية، تعمل إندونيسيا بشكل مطرد على توسيع شبكتها من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول خارج منطقة جنوب شرق آسيا. ويسرد الجدول أدناه، المستند إلى المعلومات الصادرة عن موقع منظمة التجارة الخارجية اليابانية، الأطراف التي أبرمت إندونيسيا، أو تسعى إلى إبرام، مثل هذه الاتفاقيات التجارية معها، بشكل مستقل عن رابطة دول جنوب شرق آسيا.

اتفاقيات إندونيسيا التجارية (بخلاف الاتفاقيات المبرمة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا)

اليابان اتفاقية الشراكة الاقتصادية (دخلت حيز التنفيذ في يوليو/ تموز 2008)
باكستان اتفاقية التجارة التفضيلية (تم التصديق عليها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012)
تشيلي اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (دخلت حيز التنفيذ في أغسطس/ آب 2019)
أستراليا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (دخلت حيز التنفيذ في يوليو/ تموز 2020)
كوريا الجنوبية اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (دخلت حيز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني 2023)
فلسطين مذكرة تفاهم بشأن تسهيل حركة التجارة (تم التصديق عليها في أبريل/ نيسان 2018)
موزمبيق اتفاقية التجارة التفضيلية (تم التصديق عليها في أكتوبر/ تشرين الأول 2021)
الإمارات العربية المتحدة اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (تم التصديق عليها في سبتمبر/ أيلول 2023)
سويسرا معاهدة الاستثمار الثنائية بين إندونيسيا وسويسرا (تم التصديق عليها في يناير/ كانون الثاني 2024)
كندا اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (قيد التفاوض)
مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية اتفاقية التجارة التفضيلية (تم التصديق عليها في سبتمبر/ أيلول 2011)
الاتحاد الأوروبي اتفاق إطاري بشأن الشراكة والتعاون الشاملين (تم التصديق عليه في فبراير/ شباط 2012)
رابطة التجارة الحرة الأوروبية اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (دخلت حيز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)

في السنوات القليلة الماضية فقط، تفاوضت إندونيسيا على مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية الجديدة أو المطورة مع دول خارج منطقة جنوب شرق آسيا. على سبيل المثال، وقعت اتفاقيات تجارة حرة ثنائية مع أستراليا وكوريا الجنوبية، بناءً على التزامات التحرير القائمة بين رابطة دول جنوب شرق آسيا وتلك البلدان. ​​في أغسطس/ آب 2024، وقعت جاكرتا وطوكيو بروتوكولًا لترقية اتفاقية الشراكة الاقتصادية الثنائية، والتي دخلت حيز التنفيذ في الأصل في عام 2008. بالنظر إلى ما هو أبعد من آسيا وأوقيانوسيا، فقد وقعت إندونيسيا اتفاقيات شراكة مع تشيلي ورابطة التجارة الحرة الأوروبية. وهناك اتفاقيات أخرى قيد التفاوض، ويقال إن المحادثات لإبرام اتفاقيات تجارة حرة مع كندا والاتحاد الأوروبي تدخل مراحلها النهائية.

ومع الأخذ في الاعتبار المثال الذي وضعته سنغافورة وفيتنام، كان من المتوقع أن يكون الهدف الرئيسي التالي لإندونيسيا بعد الاتحاد الأوروبي هو الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارة حرة رفيعة المستوى تشمل أستراليا وبروناي دار السلام وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام (سوف تنضم إليها قريبًا المملكة المتحدة). يبدو أن الاستراتيجية الشاملة لجاكرتا تتلخص في تطوير علاقات أوثق مع مجموعة واسعة من الشركاء الاقتصاديين مع الحفاظ على العلاقات مع كل من الولايات المتحدة والصين. وقد أعرب وزير تنسيق الشؤون الاقتصادية أيرلانجا هارتارتو عن اهتمام قوي بتعزيز العلاقات مع مناطق مثل أميركا اللاتينية، التي لم تتبادل إندونيسيا معها سوى القليل من التجارة في الماضي. كجزء من عملي في معهد البحوث الاقتصادية لرابطة دول جنوب شرق آسيا ومقره جاكرتا، تم تشكيل فريق من خبراء الاقتصاد لمساعدة وزارته في تحليل التأثير الاقتصادي الناجم عن الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ.

الرقم الصعب في العلاقات التجارية الإندونيسية

تعد إندونيسيا من بين أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا الأكثر نشاطًا في تعزيز العلاقات مع الصين على مدى العقد الماضي. ففي عام 2023، ارتفعت حصة الصين من صادرات وواردات إندونيسيا إلى 25% و28% على التوالي، في حين شكلت اليابان والولايات المتحدة وأوروبا مجتمعة 25% فقط من صادرات البلاد و20% من وارداتها (وفقًا لأرقام منظمة التجارة الخارجية اليابانية). تتغير أرقام الاستثمار المباشر الأجنبي الداخلي بشكل كبير من عام إلى آخر، ولكن في عام 2023، كانت حصة الصين 15%، مقارنة بحصة مجتمعة تبلغ 22% لليابان والولايات المتحدة وأوروبا (على أساس التنفيذ). والآن تحرص جاكرتا على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الغرب ومناطق أخرى لموازنة نفوذ الصين المتزايد.

إن انضمام إندونيسيا إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ قد يفيد اليابان أيضًا بعدة طرق. بادئ ذي بدء، يمكن توقع تحسين بيئة الاستثمار للشركات اليابانية. في السنوات الأخيرة، بدأت إندونيسيا تهتم أكثر بتصنيع مواردها الخام المحلية مثل النيكل بدلاً من مجرد تصديرها، واحتلت الصين وكوريا الجنوبية الصدارة كلاعبين رئيسيين في هذه الاستراتيجية. كما بدأ هذا الاتجاه يطغى على استراتيجية التنمية اليابانية، التي ركزت على تصنيع السيارات وغيرها من الآلات. لسنوات، كانت اليابان تتعاون في إنشاء التجمعات الصناعية وتحسين المرافق الحضرية في منطقة العاصمة جاكرتا. وإذا تمت الموافقة على طلب إندونيسيا الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ، فقد يكون من الممكن إعادة صياغة دور إندونيسيا في الشبكة الدولية لإنتاج المعدات الآلية.

الصين وإندونيسيا على قائمة الانتظار

رغم كل ما سبق، لا يزال من غير الواضح متى ستكون إندونيسيا في وضع يسمح لها بالدخول في مفاوضات الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومن المؤكد أن البلاد مرت بعملية إلغاء التعريفات الجمركية كعضو في رابطة دول جنوب شرق آسيا، ولا شك أنها تعلمت الكثير من خلال مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي وكندا. لكن الشراكة عبر المحيط الهادئ تتطلب مستوى عالياً من تحرير التجارة والامتثال للالتزامات الدولية.

لن تبدأ المفاوضات بشأن العضوية في الشراكة عبر المحيط الهادئ حتى يتفق جميع الأعضاء الحاليين على أن مقدم الطلب قد أرسى الأساس المطلوب لتلبية جميع الشروط كعضو في هذه الشراكة. ورغم أن بكين قدمت طلبها في عام 2021، إلا أن المفاوضات لم تبدأ حتى الآن بسبب اعتبار الصين غير مؤهلة. وسيتعين على إندونيسيا إجراء الإصلاحات المطلوبة لتلبية متطلبات الشراكة عبر المحيط الهادئ فيما يتصل بالمشتريات الحكومية، والشركات المملوكة للدولة، وحماية الملكية الفكرية، والتجارة الرقمية، وحقوق العمال، ناهيك عن تحرير التجارة والخدمات والاستثمار. ثم سيتعين على الحكومة التوصل إلى إجماع داخلي بشأن هذه الإصلاحات.

بداية طريق الإصلاح

إذا تم استيفاء جميع الشروط المذكورة أعلاه وتمت الموافقة على عضوية إندونيسيا، فقد يكون لذلك أهمية سياسية تتجاوز الفوائد الاقتصادية المباشرة للاتفاقية. فوسط التوترات الجيوسياسية المتصاعدة اليوم، هناك ميل متزايد لتجاهل قواعد التجارة الدولية التي وضعتها منظمة التجارة العالمية وأطر مماثلة. لكن من خلال الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ، ستتاح لإندونيسيا الفرصة لتكون حامل لواء التجارة الحرة والاستثمار في الجنوب العالمي، ومن ثم إعادة تأكيد أهمية نظام التجارة الدولية القائم على القواعد.

إن خلل جهاز تسوية المنازعات التابع لمنظمة التجارة العالمية يجسد تدهور نظام التجارة الدولية. تأسس جهاز تسوية المنازعات ليكون بمثابة محكمة الدرجة الثانية المنوط بها عملية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، وهو عبارة عن هيئة دائمة مكونة من سبعة أعضاء، إلى جانب تعيين ثلاثة أعضاء لكل قضية. لكن واشنطن منعت التعيينات الجديدة في جهاز تسوية المنازعات منذ الإدارة الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وبحلول عام 2020، انتهت مدة جميع الأعضاء.

وبموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، يحق للأطراف غير الراضية عن أي من أحكام جهاز تسوية المنازعات أن تستأنف على هذا الحكم. ولكن مع عدم قدرة جهاز تسوية المنازعات على العمل، تظل جميع هذه الطعون معلقة، مما يجعل من المستحيل فرض القرار الأولي. وهناك 24 استئنافا معلقا حتى نهاية عام 2023. بالإضافة إلى ذلك، ظل عدد القضايا المرفوعة أمام جهاز تسوية المنازعات سنويا عند خانة الآحاد منذ عام 2020.

للأسف، لا تُعَد إندونيسيا نموذجا للتجارة الحرة والعادلة. ففي تقرير امتثال الشركاء التجاريين الرئيسيين لاتفاقيات التجارة الذي تنشره كل عام وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية، يتم روتينياً ضرب المثل بإندونيسيا بسبب القيود المفروضة على الواردات من مختلف الأنواع، والقيود المفروضة على تصدير الموارد المعدنية المحلية، ومتطلبات المحتوى المحلي للمنتجات مثل معدات الاتصالات وأجهزة التلفزيون. وقد تم تقديم بعض هذه القضايا إلى منظمة التجارة العالمية ولكنها معلقة حاليا باعتبارها ”استئناف عديم المفعول“.

لكن صناع السياسات الإندونيسيين ليسوا غافلين بأي حال من الأحوال عن القواعد اللازم اتباعها. فالخبراء الذين تحدثت معهم أظهروا فهماً واضحاً للمشاكل والقضايا التي سوف تُطرح للمناقشة حتماً إذا سُمح لإندونيسيا بالدخول في مفاوضات بشأن الحصول على عضوية في الشراكة عبر المحيط الهادئ. وأملي أن تكون رغبة إندونيسيا في الانضمام إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ دافعاً لها لإصلاح سياساتها وممارساتها التجارية وأن تتولى المسرح كمؤيد نشط لنظام التجارة الدولية القائم على القواعد.

هل قواعد التجارة الحرة غير عادلة

تحاول بعض القوى السياسية في الجنوب العالمي حشد المعارضة ضد النظام الدولي القائم على أساس أنه فُرِض من قِبَل العالم المتقدم صناعياً كأداة للاستعمار أو الاستعمار الجديد. وهذا الرأي لا يجانب الصواب تماماً. ولكن هذا ليس الوقت المناسب للبدء في إصلاح النظام القائم. إن قواعد التجارة الدولية تشكل حصناً حيوياً للدول الأخرى غير اللاعبين المهيمنين مثل الولايات المتحدة، لا سيما الدول الأضعف، لذا ينبغي علينا أن نضع على رأس أولوياتنا الآن الحفاظ عليها.

مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين، فإن بعض مجالات النشاط الاقتصادي سوف تكون مقيدة حتماً بذريعة الحفاظ على الأمن. ولكن يتعين علينا أن نبذل قصارى جهدنا للحد من هذه القيود وتعزيز التجارة الحرة والحيوية في جميع المجالات الأخرى. تحقيقا لهذه الغاية، يتعين على اليابان والقوى المعتدلة الأخرى أن تعمل مع الدول الراغبة في تحرير التجارة في الجنوب العالمي لدعم نظام التجارة الدولية القائم على القواعد. وعلى رأس تلك الدول تأتي إندونيسيا وباقي أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا.

(نُشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. الصورة الرئيسية: الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو (وسط الصورة) بعد افتتاح مصهر نحاس جديد في جريسيك، شرق جاوة، في 23 سبتمبر/ أيلول 2024. وكالة فرانس برس/جيجي برس).

السياسة الدولية اقتصاد الحكومة اليابانية