بين التقاليد والتحديات الحديثة... هل يجب أن يكون العميل دائمًا على حق في اليابان؟

مجتمع

في ظل التغيرات الاجتماعية والضغوط اليومية المتزايدة، برزت في اليابان ظاهرة جديدة تعرف باسم ”كاسوهارا“، أو ”مضايقة العملاء“، التي تجسد سلوكيات غير لائقة وعدوانية يمارسها بعض العملاء تجاه مقدمي الخدمات. هذه التصرفات تجاوزت حدود التعامل الطبيعي لتصبح مصدر إزعاج وضغط نفسي على العاملين في هذا القطاع. ومع ازدياد وتيرة هذه السلوكيات، تحركت الشركات والجهات التنظيمية لاتخاذ إجراءات قانونية وتنظيمية للحد من هذه الظاهرة التي تهدد بيئة العمل في اليابان. ما الذي يدفع بعض العملاء إلى مثل هذه التصرفات، وكيف تستجيب المؤسسات لهذه المشكلة المتفاقمة؟ هذا المقال يأخذك في جولة لاستكشاف أبعاد هذه الظاهرة والحلول التي يتم تطويرها لحماية الموظفين وتعزيز بيئة عمل أكثر عدلاً وأمانًا.

مواجهة المضايقات التي يتعرض له العاملون في خدمة العملاء

أصبح السلوك العدواني والمتطلب لبعض العملاء تجاه مقدمي الخدمات في اليابان، والذي يُعرف باسم ”كاسوهارا“ (カスハラ) اختصارًا لـ”مضايقة العملاء“، قضية مقلقة. تعكس هذه الظاهرة التصرفات المسيئة التي تشمل الشتائم، المطالب غير المعقولة، والتهديدات الموجهة لموظفي الخدمات العامة والتجارة. تفاقمت المشكلة في السنوات الأخيرة نتيجة الضغوط الكبيرة التي يواجهها قطاع الخدمات، مما جعل من الضروري إيجاد حلول تنظيمية وقانونية للتعامل مع هذه الظاهرة.

تشمل أشكال المضايقات وإساءة المعاملة التي تندرج تحت مسمى ”كاسوهارا“ الشتائم، رمي الأشياء على الموظفين، ممارسة العنف الجسدي، تقديم مطالب تعويض غير منطقية، تكرار الشكاوى بشكل مبالغ فيه، احتجاز الموظفين لفترات طويلة، إجبارهم على الركوع والاعتذار، والتشهير بالشركات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لا تؤدي هذه التصرفات إلى تعطيل بيئات العمل فحسب، بل تسبّب أيضًا ضغوطًا نفسية وجسدية كبيرة على الموظفين، بالإضافة إلى تكلفة ضخمة من حيث الوقت والمال للشركات. لذلك، فإن مكافحة هذه السلوكيات أصبحت من أولويات إدارة الأعمال.

بدأت هذه القضية في لفت الأنظار لأول مرة في عام 2017، بعد أن نشرت نقابة UA Zensen التجارية دراسة حول الشكاوى الخبيثة. كشفت الدراسة أن 70٪ من أعضاء النقابة، الذين يبلغ عددهم 50,000، قد تعرضوا لأحد أشكال المضايقة أو إساءة المعاملة. وقد نالت هذه الدراسة اهتمامًا إعلاميًا واسعًا، مما أدى إلى سلسلة من التقارير حول الظاهرة في مختلف الصناعات وازدياد الدعوات لاتخاذ إجراءات للتصدي لها. ووفقًا لدراسة أجرتها UA Zensen في يونيو/ حزيران 2024، قال 46.8٪ من المستجيبين إنهم تعرضوا لسلوك مسيء في العامين السابقين، مقارنة بنسبة 56.7٪ في عام 2020. يُعتقد أن هذا الانخفاض يعود إلى زيادة الوعي العام ومبادرات أماكن العمل.

شعرت وزارة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية بالقلق إزاء هذه المشكلة، وأصدرت في فبراير/ شباط 2022 دليلاً للشركات حول كيفية التعامل مع العملاء الذين يقومون بتلك الأفعال والسلوكيات. في سبتمبر/ أيلول 2023، تم إدراج المضايق عن طريق العملاء كأحد الأسباب المقبولة للاضطرابات النفسية المرتبطة بالعمل. كما قامت الحكومة في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام بتعديل قانون الأعمال الفندقية لمنح الفنادق صلاحية رفض التعامل مع الضيوف الذين يسلكون سلوكًا سيئًا. في يوليو/ تموز 2024، أعلنت حكومة العاصمة اليابانية طوكيو عن نيتها مناقشة أول قانون محلي يعالج قضية التعرض للمضايقات من قبل العملاء أو الزبائن، بينما تسعى الحكومة المركزية إلى اتخاذ خطوات تشريعية مماثلة بالتعاون مع الائتلاف الحاكم.

كيف أصبحت الأمور بهذا السوء؟

يجب أن يكون العملاء والعاملون في مجال الخدمات على قدم المساواة، ولكن مع ذلك، تفاقمت ظاهرة المضايقات وإساءة المعاملة من جانب العملاء في اليابان إلى حد أصبح يستدعي تدخلًا تشريعيًا. هناك عوامل متعددة ومعقدة أدت إلى تفشي هذه الظاهرة، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات رئيسية.

1. مبدأ العميل دائمًا على حق

لطالما كانت الشركات اليابانية تعتمد على فلسفة ”وضع العميل في المقام الأول“ أو افتراض أن ”العميل دائماً على حق“ كجزء من مبادئها الإرشادية. ومع نهاية فترة النمو الاقتصادي السريع في اليابان، أصبحت هذه الفكرة أكثر أهمية، حيث بدأت الشركات تدرك أن التميز عن المنافسين يتطلب النظر إلى الأمور من منظور العميل. تجسدت هذه الفلسفة في سياسات حكومية مثل قانون مسؤولية المنتج الذي دخل حيز التنفيذ في عام 1995، وتعديل القانون الأساسي لسياسات المستهلك في عام 2004، الذي تلاه إنشاء وكالة شؤون المستهلك في عام 2009، في إطار خطوات تدريجية نحو تعزيز حقوق المستهلك واستقلاليته.

عندما صدر قانون حماية المستهلك لأول مرة في عام 1968، كان المستهلكون في موقف ضعيف نسبياً بسبب نقص المعرفة والتأثير. ولكن مع تحول المجتمع الياباني بشكل متزايد نحو نمط استهلاكي، تغيرت الديناميكية. اليوم، بعض المستهلكين قد يكون لديهم توقعات مفرطة ويميلون إلى الاعتقاد بأنهم يجب أن يُعاملوا كآلهة، مما يفرض ضغوطًا إضافية على الموظفين لتلبية تلك التوقعات العالية.

2. الخدمة الأفضل تثير توقعات غير معقولة

تُعد ثقافة الخدمة في اليابان، المستمدة من روح الضيافة التقليدية (أوموتيناشي) والتي تتميز بمستويات عالية من الجودة، عاملاً رئيسياً في تحقيق رضا العملاء. لكن في الوقت نفسه، قد تكون السبب في تضخم الشكاوى. يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال الآلية التالية، المتأثرة ببيئة الوسائط المتغيرة:

أولاً، يشعر العميل بعدم الرضا لسبب ما. ثم يتجلى هذا الاستياء في شكل شكوى. ومع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، يمتلك العميل القدرة على نشر شكواه على نطاق واسع وفوري، مما يضع الشركة تحت ضغط علني للاستجابة السريعة. ونتيجة لذلك، تُقدم الشركة خدمة أفضل لتلبية طلب العميل. ومع تصاعد معايير الخدمة، تُجبر الشركات الأخرى على تقديم مستويات متزايدة من الجودة لمواكبة المنافسة، ما يؤدي إلى ارتفاع عام في معايير الخدمة في الصناعة.

لكن هذا الاتجاه لا يتوقف هنا. مع ارتفاع المعايير، ترتفع توقعات العملاء بدورها، مما يؤدي إلى مطالب أكبر ومتزايدة. وفي نهاية المطاف، تصبح هذه المطالب غير معقولة إلى حد أن الشركات لا تستطيع تجاوز التوقعات، مما يعيد الشعور بعدم الرضا ويُديم ما يمكن تسميته بـ ”دورة الشكوى المفرغة“.

دورة الشكوى المفرغة

3. الإجهاد والتعب يؤديان إلى عدم التسامح

يعيش العديد من اليابانيين حالياً تحت ضغوط شديدة نتيجة للضغوط الشخصية ومتطلبات العمل. ويؤدي هذا الإجهاد إلى تراجع القدرة على التركيز والحكم السليم، مما يجعل الناس أكثر عرضة لفقدان السيطرة على عواطفهم. ومع زيادة حالات الغضب غير القابل للتحكم، تبرز ثقافة عدم التسامح في المجتمع، حيث يصبح الناس أقل قدرة على التسامح مع أي خطأ بسيط. تشير استطلاعاتي إلى زيادة في حالات مضايقة عمال الخدمات بسبب تفاصيل صغيرة مثل طريقة تسليم النقود أو وضع المشتريات في الأكياس، وهي أمور كانت تعتبر في السابق غير جديرة بالاهتمام.

ضمان فعالية التشريعات

كما ذكرت في بداية هذا المقال، أقرت الحكومة اليابانية تشريعات لمحاربة مضايقة عمال خدمة العملاء. في عام 2019، عدلت وزارة العمل قانون حقوق العمال لإلزام أصحاب العمل باتخاذ خطوات لمنع التنمر في مكان العمل، وهو ما يُعرف بقانون ”منع التحرش بالسلطة“. وتفيد التقارير أن تعديلات أخرى على هذا القانون قيد الإعداد لمعالجة مضايقة العملاء للعاملين. وفي يونيو/ حزيران 2024، أشارت الحكومة إلى الحاجة لبذل المزيد من الجهود لمعالجة هذه المشكلة، وتخطط لطرح تشريعات جديدة في الدورة البرلمانية لعام 2025.

ورغم التقدم التشريعي، إلا أن هناك العديد من التحديات التي تبرز، وأهمها هو تعريف ”مضايقة العملاء“. يتطلب التشريع تحديد معايير واضحة لما يشكل طلبًا غير معقول من العملاء، حتى تتمكن الشركات من اتخاذ إجراءات ملائمة. على سبيل المثال، رغم تعديل قانون الأعمال الفندقية للسماح لأصحاب الفنادق برفض الضيوف الذين يتصرفون بشكل سيئ، إلا أن التطبيق العملي لهذه القوانين يظل غامضًا إلى حد كبير. إذا أردنا للتشريع أن يكون فعالًا، يجب وضع تعريفات دقيقة وسهلة الفهم لما يعتبر مضايقة العملاء.

بالإضافة إلى التشريع، هناك حاجة ماسة إلى توفير بيئة عمل تضمن راحة وسلامة الموظفين. ويقع على عاتق أصحاب العمل مسؤولية تأمين هذه البيئة من خلال اعتماد تدابير محددة، مثل إصدار أدلة للتعامل مع العملاء المزعجين، وتوفير خطوط مساعدة للموظفين، وتقديم التدريب المناسب للتعامل مع المواقف الصعبة. من المهم أن يتم تكييف هذه التدابير وفقًا لطبيعة العمل في كل قطاع، بحيث تتناسب الإرشادات مع التحديات الخاصة بكل مجال.

ما هو أكثر أهمية أن يكون التشريع قابلاً للتنفيذ بفعالية على أرض الواقع. ويجب أن يسعى أصحاب العمل لنشر السياسات الجديدة بين موظفيهم، بحيث يفهمها الجميع ويتبناها كجزء من ثقافة الشركة. هذا النوع من الوعي الداخلي سيساعد في ضمان حماية الموظفين نفسيًا ومعنويًا عند تعرضهم للمضايقات.

على عكس التنمر داخل مكان العمل، فإن مضايقة العملاء يأتي من مصادر خارجية، مما يجعله أكثر تعقيدًا في التعامل معه. لذلك، من الضروري أيضًا أن يتحمل المستهلكون مسؤولية تعديل سلوكياتهم. يجب أن يتعلم المستهلكون أن التعامل باحترام مع الموظفين هو جزء أساسي من التعامل التجاري.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية، صورة العنوان من © بيكستا)

المجتمع الياباني البرلمان الياباني الحكومة اليابانية