رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي.. هل أكسبته قراراته القوية وسياساته الخارجة عن المألوف مزيدًا من العداوات

سياسة

كانيهارا نوبوكاتسو هو أحد أهم رجالات رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي وقد عمل معه في إدارته الثانية كمساعد أمين مجلس الوزراء ونائب الأمين العام لأمانة الأمن القومي. في هذا الموضوع يطلعنا كانيهارا على كواليس وخبايا أهم الأحداث والقرارات التي اتخذها شينزو آبي خلال مسيرته السياسية الحافلة.

في 8 يوليو/ تموز 2022، قام مسلح باغتيال رئيس الوزراء السابق شينزو آبي في حادثة صدمت الأمة بأسرها. في هذا الموضوع نسلط الضوء على المبادرات والجهود السياسية والدبلوماسية والأمنية التي قدمها آبي خلال فترة إدارته الثانية التي امتدت لثماني سنوات (2012-2020) والإرث الاستراتيجي والدبلوماسي الفريد الذي تركه آبي لليابان.

رؤية ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة“

لعل أبرز مبادرات رئيس الوزراء الراحب شينزو آبي هي تنفيذ رؤيته التي أطلق عليها ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة“. ومما أعطى زخماً لهذه الرؤية قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتبنيها على الفور وإعادة تسمية القيادة الأمريكية في المحيط الهادئ في هاواي باسم قيادة المحيطين الهندي والهادئ، بعد ذلك حذت كل من أستراليا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا حذو اليابان من خلال إطلاق رؤاها الاستراتيجية الخاصة لمنطقة ”المحيطين الهندي والهادئ“. وهناك سببان وراء شعبية الإطار الجيوسياسي لرؤية ”المحيطين الهندي والهادئ“.

السبب الأول هو أن الرؤية توضح ببراعة التحول الاستراتيجي للسياسة الدولية في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، كما أنها تسلط الضوء على الجفاء الاستراتيجي في العلاقات بين اليابان والولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى والتقارب الواضح بين اليابان والولايات المتحدة والهند.

إن الاستقرار الحالي على الساحة الدولية يعتمد على التفاعل بين مثلثين استراتيجيين، المثلث الأول يمثل الإطار الغربي الذي يغلب عليه الطابع البحري ويشمل أوروبا وإقليم جنوب شرق آسيا البحري وأمريكا الشمالية. ويتألف من الدول الأوروبية الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي في الطرف الغربي من أوراسيا، واليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وتايلاند وأستراليا في الطرف الشرقي. وتضمن الولايات المتحدة استمرار هذا التحالف باعتبارها الحليف الأساسي لهذه الدول.

داخل هذا المثلث يوجد مثلث آخر يتميز بديناميكية فريدة يضم القوى الأورو-آسيوية مثل روسيا والصين والهند.

ولطالما دأبت الولايات المتحدة على استغلال العلاقات بين هذه القوى القارية الثلاث لصالحها، ففي الحرب العالمية الثانية استخدمت الاتحاد السوفيتي لوقف تقدم هتلر وهزيمة ألمانيا النازية في النهاية. وخلال الحرب الباردة استغلت الولايات المتحدة الانقسام الصيني السوفيتي في الستينيات لإشراك بكين في مواجهتها مع موسكو. وبمنطق ”عدو عدوي صديقي“ سرعان ما حذت دول أخرى مثل اليابان حذوها في تطبيع العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية، مما أدى إلى حقبة من الانفراج في العلاقات بين البلدين. إلا أن أحد النتائج غير المتوقعة لهذه المناورة كانت تقارب الهند ”غير المنحازة“ مع الاتحاد السوفيتي بسبب حذر نيودلهي من الصين التي هاجمت الأراضي الهندية في عامي 1958 و1962. وهذا التاريخ الشائك بين الصين والهند هو السبب في كون جميع أسلحة الهند تصنع في روسيا إلى يومنا هذا.

مع اشتداد المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين في الألفية الجديدة، تحولت الهند تدريجياً من التحالف مع روسيا إلى المشاركة في التحالف الأمريكي الياباني. وفي أغسطس/ آب 2007 عندما زار شينزو آبي الهند كرئيس للوزراء خلال فترة إدارته الأولى، ألقى خطابًا أمام البرلمان الهندي بعنوان ”التقاء البحرين“، موضحًا رؤيته بأن تعمل منطقتا المحيط الهادئ والمحيط الهندي ككيان استراتيجي واحد وأن تتبوّأ الهند مكانتها كشريك هام للغرب بالنظر إلى القيم والمصالح المشتركة بينهما.

في تلك اللحظة التاريخية ضجّ البرلمان الهندي بتصفيق حاد ردا على خطابه، لقد حوّل آبي رؤيته حول ”التقاء البحرين“ إلى إطار عمل شامل لمفهوم ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة“ يضم في طياته الإطار الجيوسياسي ذا الأهمية المتزايدة للمجموعة الرباعية التي تتألف من القوى البحرية لكل من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا.

أما السبب الثاني فهو أن الشراكات المهمة في رؤية المحيطين الهندي والهادئ هي بين الديمقراطيات. فبينما تعاون روزفلت مع ستالين لسحق هتلر، وتعاون نيكسون مع ماو لمواجهة الاتحاد السوفيتي، كان كلا الخيارين محض وسائل نفعية اقتضتها الأوضاع في تلك المرحلة. أما الآن فيمكن للولايات المتحدة من خلال احتضانها لدولة الهند الديمقراطية التي أسس لها غاندي ورعاها نهرو، أن تنشئ تحالفاً ديمقراطياً ضخماً مكوناً من الدول الممتدة من سواحل منطقة المحيطين الهندي والهادئ إلى الأميركتين.

المجموعة الرباعية التي تدعم رؤية المحيطين الهندي والهادئ هي إطار عمل تتحد فيه القوى الأربع للولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند، ورغم أن لكل من هذه الدول خلفيات تاريخية وحضارية مختلفة تمامًا، إلا أن القيم العالمية توحدها. فالولايات المتحدة وأستراليا نجحتا في القضاء على العنصرية محلياً واحتضان مفاهيم الحرية وتطوير أنظمة ديمقراطية ناضجة. كما نجحت اليابان في تحديث نفسها بسرعة والسير في طريق الديمقراطية قبل أن تُهزم في الحرب العالمية الثانية بعد أن سيطرت عليها النزعة العسكرية، لكنها أعادت إحياء التزامها بالحرية والديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية وعادت إلى الظهور كقوة كبرى على الساحة العالمية. أما الهند فقد نجحت في ظل القيادة الروحية لغاندي، في التحرر من نير الاستعمار البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية وتحقيق الاستقلال كدولة ديمقراطية، وسوف تتفوق على اليابان قريبًا من حيث الحجم الاقتصادي.

خلال فترة ولايته، أخذ آبي على عاتقه مسؤولية دعم النظام الدولي الليبرالي. وجاء البيان الذي ألقاه في الذكرى السبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية ليعكس بشكل إيجابي الاتجاهات التاريخية في المجتمع البشري. أشار البيان إلى أن احترام جميع الناس وتحقيق المساواة والحرية هي مبادئ ساعدت الدول على التوصل إلى توافق في الآراء بشأن القواعد الدولية والاتفاق على أهمية نشر هذه القيم العالمية في كل مكان. وقد حظيت هذه النظرة الاستشرافية للتاريخ بدعم قوي من الشعب الياباني واعتراف واسع من دول آسيوية أخرى.

إعادة تفسير الدستور ومبدأ الدفاع الذاتي الجماعي

كرئيس للوزراء، اجتهد آبي لسن تشريع ”السلام والأمن“ الذي يسمح بممارسة الحق في الدفاع الذاتي الجماعي، وهي قضية طال أمد النقاش فيها على امتداد تاريخ اليابان بعد الحرب. في جميع الاتفاقيات الدولية الرئيسية في فترة ما بعد الحرب، حرصت الحكومة اليابانية على إيضاح أن اليابان، كسائر الدول الأخرى، تمتلك الحق في الدفاع الذاتي الجماعي كما هو محدد في ميثاق الأمم المتحدة، لكن الفقرة الثانية من المادة 9 من الدستور الياباني تحظر على اليابان امتلاك قوات برية وبحرية وجوية. وقد أُدرجت هذه الفقرة في الدستور في الفترة المبكرة للاحتلال بسبب قرار قصير النظر اتخذته القيادة العامة لقوات التحالف (GHQ) قبل الحرب الباردة لنزع سلاح اليابان تمامًا.

ثم جاء حكم المحكمة العليا لعام 1959 في قضية سوناغاوا ليؤيد الرأي القائل بأن اليابان تحتفظ بحق الدفاع الذاتي بموجب الدستور، لكن الحكومة استمرت في تكبيل يدها بتفسير دستوري حرم اليابان من امتلاك القدرة اللازمة لممارسة حق الدفاع الذاتي الجماعي. وجدير بالذكر أن السياسة الداخلية لليابان في ذلك الوقت كانت تعصف بها توترات وانقسامات الحرب الباردة، فأراد الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم تقوية التحالف بين الولايات المتحدة واليابان بما في ذلك ممارسة حق الدفاع الجماعي عن النفس، بينما دعا الحزب الاشتراكي الياباني إلى الحياد غير المسلح وعارض التحالف. وخلال الحرب الباردة أصبح النقاش حول قدرة الحكومة اليابانية على ممارسة حقها المعترف به دوليًا في الدفاع الذاتي الجماعي، نقاشًا مسيسًا للغاية.

لقد تضمنت المعاهدة الأمنية الأمريكية اليابانية التي تمت مراجعتها في عام 1960 من قبل رئيس الوزراء كيشي نوبوسوكي (جد شينزو آبي) بند ”الشرق الأقصى“ (المادة 6)، بالإضافة إلى المادة 5 التي نصّت على الالتزام الأمريكي بالمشاركة في الدفاع المشترك عن اليابان. سمحت المادة 6 للولايات المتحدة باستخدام اليابان كقاعدة دعم لحماية كوريا وتايوان (الأراضي التابعة للإمبراطورية اليابانية سابقاً) بالإضافة إلى الفلبين (التي كانت إقليماً أمريكياً في السابق).

كدول أخرى عديدة، كانت الولايات المتحدة أيضًا تخشى عودة ظهور اليابان كقوة عسكرية بعد الحرب، واعتُبر الجيش الأمريكي بمثابة ”الفلين في الزجاجة“ أو الرادع الذي يمنع ظهور شيطان النزعة العسكرية اليابانية مجدداً. ولذلك فحتى عندما أنشأت اليابان قوات الدفاع الذاتي في عام 1954، كان هناك حرص على إبقاء التسليح في نطاق محدود للغاية.

ثم جاءت التسعينيات وجلبت معها نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، لكن سرعان ما قررت كوريا الشمالية تطوير أسلحة نووية، وعندما فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات شديدة ردًا على ذلك زادت المخاوف من اندلاع حرب كورية ثانية. أدى تبديد التهديد العسكري الروسي في شمال اليابان حول هوكايدو إلى زيادة التوقعات بأن الولايات المتحدة ستطلب المساعدة من طوكيو كما فعلت خلال الحرب الكورية الأولى، فقامت حكومة هاشيموتو ريوتارو بمراجعة المبادئ التوجيهية الدفاعية الأمريكية اليابانية في عام 1997، ثم أقرت حكومة أوبوتشي كيزو تشريعات ”المناطق المحيطة باليابان“ في عام 1999 والتي أتاحت لليابان إمكانية تقديم الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية في حالة نشوب حرب كورية جديدة أو أي حرب إقليمية أخرى، لكن لم يتغير شيء في الوضع القائم وظلت اليابان محرومة بموجب الدستور من ممارسة حقها في الدفاع الذاتي الجماعي والمشاركة في القتال في خارج أراضيها.

إن إعادة تفسير الدستور التي قدمتها إدارة آبي سمحت لطوكيو بممارسة حقها في الدفاع الجماعي عن النفس بتنسيق أعمق بين قوات الدفاع الذاتي والجيش الأمريكي وذلك في حالات الطوارئ الإقليمية التي يكون فيها وجود اليابان مهددًا بنشوب صراع، لكن بر اليابان الرئيسي لم يتعرض للهجوم بعد. لذا فقد أدت إعادة تفسير آبي للدستور والتشريعات الناتجة عن ذلك إلى زيادة القوة الرادعة للتحالف بين الولايات المتحدة واليابان، ومن الناحية النظرية تتحمل كل من اليابان والولايات المتحدة الآن مسؤولية متساوية عن الدفاع الإقليمي في منطقة شمال المحيط الهادئ.

الدفاع الديناميكي وتعديل الموقف الدفاعي لليابان

في عام 2013 أصبح آبي أول رئيس وزراء ياباني يصدر رسميًا استراتيجية الأمن القومي للبلاد. بعد ذلك، شكلت هذه الاستراتيجية إطارًا لمراجعة إرشادات برنامج الدفاع الوطني ثم الخطة الدفاعية لمنتصف المدة. وتلا ذلك تنقيح كلتا الوثيقتين مرة أخرى في عام 2018 تحت إشراف آبي.

بالإضافة إلى التركيز الاستراتيجي الحالي على هوكايدو وسخالين وشبه الجزيرة الكورية، فقد ركزت الوثائق الجديدة بشكل أكبر على مسألة الدفاع عن جزر نانسي اليابانية الواقعة في الطرف الجنوبي الغربي من الأرخبيل الياباني. لا شك أن الدفاع عن جزر اليابان في منطقة بحر الصين الشرقي الشاسعة ضد جمهورية الصين الشعبية وتقديم الدعم حال حدوث طوارئ أمنية في تايوان ستكون مهمة صعبة جداً. ولهذه الغاية، أنشأت إدارة آبي قوة برمائية قوامها 3000 جندي، وتم توسيع مسؤوليات قوات الدفاع الذاتي لتشمل مجالات الحرب السيبرانية والإلكترونية وحرب الفضاء.

عندما تولى آبي منصبه للمرة الثانية في عام 2012 كانت ميزانية الدفاع 4.7 تريليون ين وعندما ترك منصبه في عام 2020، ارتفعت إلى 5.5 تريليون ين (بما في ذلك الإنفاق الإضافي للميزانية). لكن خلال نفس الفترة نما الاقتصاد الصيني إلى ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد الياباني وثلاثة أرباع حجم الاقتصاد الأمريكي، كما زاد الإنفاق العسكري لجمهورية الصين الشعبية بوتيرة أكبر وصلت إلى خمسة أضعاف ميزانية الدفاع اليابانية (حوالي 25 تريليون ين ياباني). على الرغم من جهود آبي فقد دخلت اليابان حقبة أصبح فيها إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي (10 تريليون ين ياباني) على الدفاع تماشياً مع معايير الناتو هو الحد الأدنى.

ينبغي هنا أن نتذكر أن قوات الدفاع الذاتي قد أُنشئت في الأصل لصد الغزو السوفيتي لهوكايدو لبضعة أشهر إلى أن وصلت القوات الأمريكية لتحريرهم. حتى إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي الدفاعي لعدة سنوات من غير المرجح أن يجعل قوات الدفاع الذاتي قادرة على مواجهة وصد القوات الصينية لفترة طويلة من الزمن. لقد أدرك آبي مبكراً الحاجة إلى تعزيز قدرات قوات الدفاع الذاتي، واليابان الآن في أمسّ الحاجة إلى زعيم قادر على مواصلة ما بدأه آبي من خلال إدخال تعزيزات جوهرية على قوة الدفاع الوطني لليابان.

(نشر النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: رئيس الوزراء شينزو آبي يصافح رئيس الوزراء الهندي مودي، إلى اليسار، أثناء زيارته لليابان، قبيل اجتماعهما في مكتب رئيس الوزراء في طوكيو في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. جيجي برس)

شينزو آبي الحزب الليبرالي الديمقراطي الحكومة اليابانية